الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إميلى ويلسون أول امرأة تُتَرجِم الأوديسة إلى الإنجليزية

«حدَّثنى عن رجل معقد»، هكذا بدأت إميلى ويلسون ترجمتها الجديدة، والتى تكشف أهمية القصص الغابرة لعالمنا المعاصر.



تحكى الأوديسة قصة رجل؛ هكذا تبدأ القصة، فى ترجمة روبرت فاجلز 1996 على سبيل المثال، تفتتح القصيدة بهذا السطر «غنِّ لى عن الرجل، الرجل ذو القرائح». فى سياق القصيدة، يخطط الرجل لعودته لمنزله بعد قتاله فى حرب طروادة، يذبح الخاطبين الساعيين للزواج من زوجته بينيلوبى، ليضع نفسه من جديد رأسًا للعائلة.

ولكن تتضمن الأوديسة أشخاصا آخرين: بينيلوبى، الحورية كاليبسو، سيرسى الساحرة، الأميرة نوزيكا، الكثير من رفاق أوديسيوس الذين ماتوا قبل عودتهم لمنازلهم، وعدد لا يحصى من العبيد فى منزل أوديسيوس، كثير منهم لم تُذكَر أسماؤهم.

إميلى ويلسون، أول امرأة تُتَرجِم الأوديسة إلى الإنجليزية، تُولى اهتمامها لكل تلك الشخصيات بقدر عنايتها بأُوديسيوس. 

اختارت لترجمتها لغة مباشرة وعصرية أزالت الغمامة عن بعض أوجه عدم المساواة لبعض الشخصيات والتى قد أغفلتها الترجمات الأخرى، فهى ليست ترجمة جديدة وحسب، بل تقدم طريقة جديدة للتفكير بالقصيدة فى إطار الجندر وميزان القوة فى العلاقات اليوم، فكما قالتها ويلسون «إن مسألة من المهم، هو محور ما يدور حوله النص».

أهمية ترجمة امرأة للأوديسة

تعد الأوديسة واحدة من أقدم الأعمال الأدبية التى يقرؤها المجتمع الأمريكى، حيث كُتِبت فى القرن الثامن قبل الميلاد، وتسبق بيوولف بـ 2000 عام تقريبًا، بينما تحكى الإلياذة قصة حرب طروادة، تُكمل الأوديسة من لحظة انتهاء الحرب، مع أوديسيوس ملك إيثاكا، فى محاولته للعودة لمنزله.

كلا القصيدتان منسوبتان للشاعر الإغريقى هومر، ولكن لأن نشأتهما كانت بشكل شفهى وليس نصاً مكتوباً، فمن الصعب الجزم إذا ما ألفهما شخصٌ واحد أم كانتا نتاجٌ لعدد من المؤلفين والمؤديين الذين صقلوهما وأضافوا لهما بمرور الزمن، (مقدمة ترجمة ويلسون تضمن نقاشاً مطولاً عمن هو «هومر»).

ترجمت ويلسون، أستاذة الدراسات الكلاسيكية فى جامعة بنسلفانيا، مسرحيات للإغريقى يوربيديس والفيلسوف الرومانى سينيكا. ترجمتها للأوديسة هى واحدة من عديد من الترجمات إلى الإنجليزية (ولكن كل الأُخريات كُنَّ لرجال)، ضمنهم ترجمات فاجلز، روبرت فيتزجيرالد، ريتشموند لاتيمور، وآخرون، والترجمة من اللغة الميتة التى استخدمها هومر، وهى نوع من اليونانية القديمة يسمى اليونانية الهومرية، إلى الإنجليزية المعاصرة ليست بالأمر اليسير، وكل مترجم يأتى إلى النص بمهاراته وآراؤه، وجماليات أسلوبه، فتكون النتيجة أن كل ترجمة تختلف عن الأخرى، وكأنها قصيدة جديدة بالكامل.

لا يوجد بالإلياذة سوى عدد قليل من الشخصيات النسائية الرئيسية، لأنها ملحمة قتالية، ولكن الأوديسة على الجانب الآخر، تكرس وقتاً كبيراً لحياة (وأحلام) بينيلوبى، سيرسى وكاليبسو والإلهة أثينا جميعهن يلعبن أدواراً مهمة، هذا كان أحد أسباب انجذابى للأوديسة فى فترة مراهقتي، وسبب عودتى لها كثيراً على مر السنين.

ولا يمكن اعتبار الأوديسة نصًا نسويًا، فربما أوديسيوس يواجه صعوبات أثناء رحلة عودته لمنزله، لكنه تمكن على الأقل من السفر حول العالم وممارسة الجنس مع نساء جميلات مثل كاليبسو وسيرسى - بينيلوبى، فى نفس الوقت، كان عليها الانتظار بينما الخُطَّاب البغيضون يشربون ويسكرون فى منزل عائلتها، ويضغطون عليها لاختيار أحدهم ليكون زوجا لها. وسعياً لكسب بعض الوقت، تقول إنها لن تستطيع الزواج حتى تنتهى من حياكة كفن لوالد زوجها، ليحل الليل وتُفكِّك ما صنعته، حتى تستمر المهمة لأطول وقت ممكن، «دائما ما يأخذه عمله لمكان ما»، أخبرتنى ويلسون، «أما عملها فيتمحور حول التفكيك، دائما عن إخفاء نفسها، إخفاء رغباتها، وصنع شيء لا وجهة له ولا نهاية».

بعض القراءات النسوية للأوديسة حاولت وضع بينيلوبى فى منزلة بطولية، أحيانا بمقارنتها بأوديسيوس.

 «أظن أن هناك عدة مشاكل بهذا المنظور»، تقول ويلسون، «فلا يزال الحُكم عليها يأتى من موضع مقارنة معه»، بالإضافة إلى تناول بينيلوبى كبطلة يضع التركيز على امرأة ثرية على حساب العديد من النساء المُستعبدات فى القصيدة، منهن من يمُتن بشكل وحشى ومفاجئ. فبعد عودة أوديسيوس وقتله لجميع الخاطبين، يقول لابنه تيليماكوس أن يتخلص من جميع العبيد من النساء اللواتى مارسن الجنس مع (أو اغتُصِبن من) الخاطبين.

«قَطِّعهُن إرباً بسيوف طويلة، وأسلبهُنَّ الحياة»، هكذا يقول أوديسيوس فى ترجمة ويلسون. «سينسينَ الأشياء/ ما جعلهُنَّ الخطاب يفعلن معهم فى السر».

ترى ويلسون أنها، كامرأة، قد أتت إلى الأوديسة بمنظور مختلف عن سابقيها من المترجمين. وقد كتبت فى مقالة لصحيفة الجارديان «غالبا ما تقف المترجمات فى منطقة حرجة عند تناول مؤلفين، ليسوا فقط ذكور، ولكنهم متأصلون بعمق فى فئة كان من المُتَصوَّر أنها، لقرون عديدة، انتمت إلى الرجال»، ووصفت رحلتها فى ترجمة هومر أنها تجربة «اغتراب حميم».

«لم يشعر من سبقنى من المترجمين بقدر ما شعرته بعدم الراحة تجاه النص،» قالت، «وقد أحببت شعورى بعدم الراحة»، كان واحداً من أهدافها لهذه الترجمة إيصال هذا الشعور بعدم الراحة إلى القراء، بحقيقة امتلاك أوديسيوس لعبيد، والظلم فى علاقة زواجه ببينيلوبي، إلقاء الضوء على هذه العناصر فى القصيدة بدلاً من إخفائها، «يجعل النص أكثر إثارة للاهتمام»، تختلف ترجمة ويلسون عن سابقاتها فى أمور دقيقة، وأخرى أكثر وضوحاً.

جزء من اتجاه ويلسون فى تحديها لقراءات سابقة الأوديسة يتمثل فى الأسلوب، صنعت ترجمتها صدى قبل نشرها بشهور، عندما انتشر مقتطف فى عدد صيف 2017 من the Paris Review، تحمست أنا وغيرى من قراء الأوديسة لافتتاحية ويلسون «حدَّثنى عن رجل معقد»، بلغتها الصريحة والمباشرة، خلاف ترجمة فاجلز «غنِّ لى عن الرجل..» أو ترجمة روبرت فيتزجيرالد 1961 «غنِّ بداخلى، وبلسانى قُصِّى حكاية/ ذلك الرجل البارع فى كل طرائق الصراع.» اتجهت ويلسون لاختيار لغة مباشرة ومعاصرة نسبياً «لتحفيز القراء للتفاعل مع النص» وتكتب فى ملاحظة المترجم، «استخدام الخطابة المبهرة والقوة اللغوية هى طريقة جيدة لإضفاء نوع من الأهمية وجذب نوع خاص من الإعجاب، ولكنها تميل لإسكات المختلف وتثبيط النقاشات الأكثر عمقا».

أخبرتنى ويلسون «هناك فِكر متداول أن هومر يجب أن يكون بصوت بطولى وعتيق،» ولكن هذه الفكرة تأتى مع نظام للقيم، يتضمن «التأكيد على أن هذا النظام الهرمى تحديداً هو البطولة» سرد الحكاية بلغة أكثر مباشرة يتيح للقراء رؤية أوديسيوس ومجتمعه بصورة مختلفة.

تحتوى ترجمة ويلسون للأوديسة على ومضات من الجمال، فكتبت فى الكتاب الثانى «وُلِدَ الفجر باكراً»، «أزهرت أصابعها»، وعن الغابة على جزيرة كاليبسو حيث تسكُن الطيور إلى أعشاشها، تكتب «امتلأت بالأجنحة»، ولكن على طول الكتاب، طغت الصراحة على لغة ويلسون حول الأعمال والقائمين بها. 

فكتبت عن إفريميدوسا، إحدى العبيد فى منزل الأميرة نوزيكا، «اعتادت مجالسة نوزيكا فى طفولتها/ والآن تُقيد لها النار وتطهو الطعام».

فى الترجمات القديمة، لم يكن العبيد «يجالسون»، وعادة، لم يُصَنَّفوا كعبيد على الإطلاق. ففاجلز، على سبيل المثال، أطلق على إفريميدوسا «خادمة»، ولقبها فيتزجيرالد بالـ»مربية». تقول ويلسون «تُصيبنى الصدمة عندما انظر إلى الترجمات الأخرى وأرى الجهد المبذول لإخفاء العبودية».

وعلى النقيض من ذلك، تستخدم ويلسون كلمة «عبدة» لوصف إفريميدوسا والعديد من الشخصيات المستعبدة الأخرى، وحتى عندما يستخدم النص الأصلى مصطلحاً أكثر تحديداً.

تكتب ويلسون فى ملاحظات المترجم؛ المصطلح اليونانى الهومرى (dmoe) أو «عبدة منزلية»، يمكن ترجمتها إلى «وصيفة» أو «خادمة منزلية»، ولكن تلك المصطلحات تُلمِّح ضمنياً أن المرأة حرة، وكتبت «تغلُب الحاجة إلى الاعتراف بحقيقة العبودية وفظائعها، وإبراز الحقيقة الصادمة أن المجتمع المثالى المرسوم فى القصيدة تعتبر فيه العبودية أمراً مفروغاً منه، بالنسبة لي، الحاجة إلى تحديد نوع العبد، فى كل موضع».

فى حين أن لغة ويلسون مباشرة فى أغلب الأحيان، إلا أن كلماتها اُختيرت بعناية، أخبرت ويات ميسون فى مجلة النيويورك تايمز أنه كان بإمكانها استفتاح القصيدة بـ» حدثنى عن زوج شريد،» والذى يعد اختيارا أكثر راديكالية ويظل «ترجمة صحيحة» ولكنها قالت «إن هذا سيعطى منظوراً وإعداداً مختلفين تماماً للقصيدة» وأشار ميسون إلى أنها «تحدثت برسوخ من يتخذ قرارات صعبة ولكنه مؤمن بها».

تتجلى تلك الاختيارات فى معالجتها لبينيلوبي، فبينيلوبى شخصية مستفزة، ليس واضحاً لماذا لم تطلب من الخاطبين الرحيل أو لماذا لم تتزوج أى منهم، وتقدم القصيدة مدخلاً محدوداً لأفكارها ومشاعرها. لم تحاول ويلسون جعل بينيلوبى مفهومة أكثر، «غموض بينيلوبى» كما وصفته، هو أحد عوامل القصيدة التى تستخدمها لاستفزاز القراء وتحفيز إحساسهم بعدم الراحة.

وتخبرنا التفاصيل الدقيقة شيئا ما حتى عن أكثر الشخصيات استفزازاً، ففى نقطة ما فى الكتاب21، تفتح بينيلوبى حجرة التخزين حيث يضع أوديسيوس أسلحته. وكما توضح ويلسون فى ملاحظات المترجم، فهذا المشهد هو نقطة الانطلاق لمذبحة الخاطبين ونهاية القصيدة. وفى امساكها للمفتاح يصف هوميروس يدها بـ»pachus» أو «الغليظة».

«هنا تكمن مشكلة،» تكتب ويلسون «ففى ثقافتنا، لا يُفترض أن تمتلك النساء أيادٍ كبيرة، أو غليظة، أو سمينة». عادة ما حل المترجمون هذه المعضلة بتجاهل الصفة تماماً، أو استبدالها بوصف تقليدياً أكثر، فذكر فاجلز «يد بينيلوبى الثابتة» ويلسون، على الصعيد الآخر، تصف اللحظة كما يلى: «امسكت يدها الخشنة بالمقبض العاجى للمفتاح». 

كتبت، «فى الحقيقة تجعل الحياكة يدى الشخص أكثر خشونة، أردت أن تؤكد ترجمتى، مثل الترجمة الأصلية، على كفاءة بينيلوبى الجسدية، مما يميزها كشخصية تلعب دوراً محورياً فى القصة – سواء كانت تدرك ما تفعله أم لا».

لا تعطِ ويلسون أى سيادة أو قوة لبينيلوبى أكثر مما تملكه فى القصيدة الأصلية، لكنها لا تسلب الملكة قوتها باستخدام أوصاف تتماشى مع الصور الجندرية النمطية الحديثة.

قالت ويلسون، «جزء من مكافحة كراهية النساء فى عالمنا المعاصر هو تواجد رؤية واضحة لهيكلية الأفكار وهيكلية المجتمع اللتان مكنتا المنظور الذكورى المركزى فى الثقافات المختلفة، ومنها ثقافتنا».

وقراءة الأوديسة بالطريقة الصحيحة يمكنها مساعدة القراء على فهم تلك الهياكل بشكل أكثر وضوحاً، تقدم القصيدة «دفاعاً عن مجتمع يحكمه الذكور، دفاع عن بطله وانتصاره على الجميع،» قالت، «لكنها أيضاً تقدم سبلاً لإدراك فظائع هذا السرد، وما يفتقده هذا السرد».

أدت الأحداث الأخيرة إلى نقاش واسع حول الطريقة التى يجب أن يتناول بها الجمهور أعمال من نعرف أنهم معنفين للنساء. وهذا يتشابك مع السؤال عن كيفية تناول الفن الذى يحتوى على أشكال من العنصرية العرقية أو الجنسية، أو أى نوع آخر من التعصب. دائما ما يُستَثنى من هذا النقاش حقيقة أن ذوى البشرة الملونة والنساء من جميع الأعراق تناولوا فنوناً عنصرية ومتحيزة جنسياً فى أمريكا لأجيال عديدة (فى العديد من محاضرات الأدب الغربى على سبيل المثال، لم يملكوا اختياراً) وصنعوا ردودهم الخاصة عليها، والتى تكون عادة شديدة الدقة.

يتحدث المحافظون عن «ندفات الثلج» الذين يطالبون بإرفاق تحذير محتوى صادم يتجاهل حقيقة أن المهمشين فى المجتمعات الغربية قد قرأوا الأدب بنفس الطريقة التى تصفها ويلسون بالضبط: كإقرار بِقيَم مؤلفها، وكدليل عن مدى الفظاعة التى قد تصل إليها تلك القيم، ومن يسقطون تحت عجلاتها.

ترجمة ويلسون ليست ترجمة نسوية للأوديسة، بل هى نسخة من الأوديسة تكشف أخلاقيات زمنها ومكانها، وتدعونا للنظر فى مدى الاختلاف والتشابه بينها وبين أخلاقياتنا.