الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع

الآن يأتى الخبير

الأعمال للفنان: يوسف محمود



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

الآن يأتى الخبير

 

قصة قصيرة

 

محمد فهمى سلامة 

 

سقط العامل جمال سلطان ميتًا على بُعد خطوة من بوابة مصنع الغزل الذى عمل به لمدة أربعين عامًا، تدحرجت نظارته  إلى داخل خط عرضى حُفر لمجرى البوابة الكبيرة للمصنع .. وينص قانون العمل فى مصنع «النشّار» للغزل أن تُدفع ربع مليون جنية كاملة لأسرة العامل فى حال وفاته داخل حيز المصنع والذى يبدأ من البوابة. 

عَلَت الجلبة بالخارج فهرع العُمّال من الداخل إلى الجثة محاولين تفحصها لكن أمر الله قد نَفَد، فصرخ سيد عبد المتعال، وهو زميل له من قِسم الغلّاية:

- احملوه إلى الداخل يا جماعة.. لا تتركوه مرميًا على الأرض كالكلاب الضالة. 

وهَمَّ اثنان آخران لحمله من تحت الإبط، لكن صوت شدّ أجزاء السلاح قد صعق الجميع فأسقطوه مكانه.. لكن يده اقتربت من ملامسة حيز البوابة بحيث أن لمسه واحدة قادرة على أن تجعلها داخل الحيز المنشود. 

 وابتعد الجميع إثر وجهين عبوسين لعاملى الأمن، بينما يقف الثالث وهو قائدهم اسماعيل، حيث رمق سيد بخبث لا يخلو من ابتسامة الذى اكتشف الأمر، قائلًا:

- كل شىء فى مكانه يا جماعة.. الآن يأتى الخبير.. أخبرنا الإدارة وهو نازل من مكتبه بعد خمسة دقائق. 

ثم نظر إلى العاملين مؤكدًا على الاستعداد الكامل لأى غدر من العمال نُصرة لزميلهم . نزَل سهم الله على الجميع بعدما خرقَت كلمة «الخبير» كل الآذان.. فهذا الخبير هو الرجل المنتدب من «مصلحة العمال» لتحديد حالات الإصابات أو الوفيات للعمال، وإقرار القيمة المستحقة بالضبط للتعويض.

تراجع الجميع خطوتين، وسيطرت حالة من الصمت، ووقف اسماعيل على رأس الجثة بقدمين راسختين وكأنه هو من قَتَله، فارضًا سيطرته على المشهد.. وبعد لحظات حاول سيد عبدالمتعال أن يصنع حالة من الجَلَبة ربما تخلق له الفوضى فرصة لتحريك جزء من الجثة سنتى متر واحد إلى الداخل، فتقدم خطوتين نحوها ونَعَر ملوحًا بيديه :

- كيف نتركه هكذا يا اسماعيل أفندى؟ الجثة ستعفن وهذا فيه مسؤولية قانونية عليك!

ونظر حوله مستجديًا الجميع أن يرفع صوته، فقابله إسماعيل بابتسامة ساخرة: 

- الرجل مات لتوه .. لا تقلق بشأن الجثة..  والآن يأتى الخبير وسينتهى كل شيء. 

عاد سيد إلى دائرته يجر خيبته .. وأعيد ترتيب المشهد من جديد .. حتى فكّت سيدة قاربت على الخمسين عقد أصابعها التى لثمت بها فمها بعد أن سالت الدموع على أصابعها، عينيها التى صوبتها على وجه جمال النائم فى مرقده.

وتحشرج صوتها قائلة:

- إسماعيل.. الرجل لديه بنتين.. أحب على رجليك إفعل اللازم. 

ابتلع اسماعيل ريقه بصعوبة.. ونظر حوله وأحاط رقبته بطوق يده فى اختناق، وقال بعد أن انكسر صوته قليلًا:

- آسف يا ست نوال.. الآن يأتى الخبير. 

رمقه أحد فتية المصنع الواقفين .. كان قاد سال العرق على صدره المفتول فأضاف له رونق الرياضيين، وقال متندّرًا، مقلدًا لصوت إسماعيل: 

- آسفين يا سِت نوال .. أصبحنا بلا قلب.. الآن يأتى الخبير ليجعلنا بنى آدمين! 

صوّب اسماعيل نظرته فى حِدّة ووجه إليه الكلام: 

- احترم نفسك يا جابر وإلا ربيتك من جديد يا ناقص الرباية!

طقَّ الشرار فى أعين جابر وجرى متهجمًا على إسماعيل لكن إسماعيل سبقه بنظره إلى الاثنين الواقفين على أتم استعداد، وقبل أن تصل أظافر جابر المتسخة إلى رقبة إسماعيل كان دِبشك أحدهم فوق أنفه فخارت قواه وعاد إلى دائرته يحاول إيقاف شلال الدم الساخن الذى أغرق ملابسه فى محاولة بائسة لمسك أنفه، فسيطر الخوف على جميع الواقفين ما أزاد من حدة اسماعيل الذى حاول رفع الذنب عن نفسه فخرج فى صورة صرخة كبيرة:  إسمعوا يا مواشى.. لا يتحرك فيكم أحد ولا أسمع همسة واحدة.. الآن سينتهى كل شىء.. الآن يأتى الخبير!

ساد الصمت مرة أخرى على الواقفين إلا من نهجان جابر، ونهنهة السِت نوال التى ساح دمعها على خِمارها، واصطكاك أسنان سيد عبد المتعال الذى تملكه الغيظ، ولم يكسر الصمت إلا ظهور الخبير من بعيد والذى جاء ومن حوله حاشيته فى هِمّة.. ما جعل الجميع يعيد استعداد نفسه فى تداخل أصوات الأقدام. 

رمق إسماعيل الخبير الذى اقتربت مسافته، ثم نظر إلى الجثة، وأنف جابر، وسيد الذى فَحّ منه الحنق.. وتوتّرت أرنبة شفتاه.. ولاح فجأة فى ذهنه صوت ابنتيه الدافئ أثناء دخوله إلى المنزل .. ثم أعاد النظر إلى السِت نوال فرمقته هى الأخرى بنظرة تحمل من الهَم مقدار ما تحمل من الأسى، ثم أعاد النظر إلى المشهد كاملًا، وقبل أن تصبح الجثة بمرمى نظر الخبير الذى أصبح على بعد يمكنك أن تميز منه ألوان ملابسه .. حرّك إسماعيل كَفّ يد جثة جمال فحكّت الساعة التى كان يرتديها فى الأرض إلى أن لامست أصابعه حيز خط البوابة.. فتجمّد الجميع فى مكانه حتى إن دمعة السِت نوال بردت فى لحظتها. 

انتهى الخبير من مهمته التى لم تستمر إلا لدقائق، وبعد أن أقرّ بتعويض ربع مليون جنية لذوى جثة العامل جمال سلطان، وأثناء رحيله مع الحاشية.. رمق إسماعيل بنظرة ذات مغزى.. وضاع مع حاشيته فى المدى.