الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

سيدتى أنا كوميديا متزنة اكتملت فيها عناصر الجذب بالغناء والاستعراض

فتح المسرح القومى أبوابه برئاسة مديره الفنان أيمن الشيوى، ليعود لاستقبال جماهيره من جديد بأحدث إنتاجاته «سيدتى أنا» بطولة داليا البحيرى ونضال الشافعي، وذلك بعد غياب دام عاما كاملا لم يستقبل فيه المسرح أعمالا منذ إغلاق آخر عروضه «فى انتظار بابا» للمخرج سمير العصفورى، يلعب العرض على عنصر الكوميديا بالأساس لكن مع إدراك صناعه بضرورة كتابة وتقديم نوع من الكوميديا يناسب وقار القومى حيث نسجت الكوميديا بشيء من الحرص والإتزان بما لا يحول دون تقديمه على خشبة المسرح القومى.



 

«سيدتى أنا».. معالجة جديدة لمسرحية برنارد شو «بجماليون» استوحى الكاتب فكرتها من الأسطورة الإغريقية «بجماليون» النحات العظيم الذى كان يكره النساء لكنه صنع تمثالا لامرأة جميلة وقع فى حبها، وتمنى أن تصبح فتاة حقيقية يتزوجها، اتخذ شو من تلك الفكرة الأسطورية بناء نسج عليه قصة لعمل يتناول فيه قضية واقعية ربما كان أبرز ما يشغله تطبيق الفكر الاشتراكى الذى تبناه وتناوله فى أكثر من عمل فنى، وبالتالى تحولت بجماليون على يديه من مجرد أسطورة خيالية إلى قصة عن واقع حقيقى تعيشه إنجلترا فى ذلك الزمن، عن هنرى هيجينز الذى يعمل أستاذا فى علم الصوتيات أو «الفوناتكس» يصادف فى طريقه فتاة بائعة ورد تتحدث لغة انجليزية ركيكة فهى لا تجيد التحدث بالإنجليزية كما ينبغى، أو بما يليق بجلال هذه اللغة من وجهة نظره، يدخل فى تحد مع صديقه بأنه يستطيع تحويل تلك الفتاة من سوقية لا تجيد التحدث باللغة الإنجليزية والنطق بحروفها الصحيحة إلى فتاة قادرة على التحدث واقتحام عالم الطبقة الراقية.

قدمت «بجماليون» فى معالجات مسرحية وسينمائية «سيدتى الجميلة» الذى لعبت بطولته النجمة أودرى هيبورن وريكس هاريسون وإخراج جورج كيوكور عام 1964 وحصل الفيلم على جائزة الأوسكار فى نفس العام، ثم قدمت مسرحية «سيدتى الجميلة» 1969 برؤية تناسب البيئة المصرية تماما..لعب بطولتها الفنان فؤاد المهندس وشويكار كتبها الراحل بهجت قمر وأخرجها حسن عبد السلام قدموا ابداعا جديدا على إبداع برنارد شو وأصبحت من كلاسيكيات المسرح المصري، وفى عام 2022 قرر الشاعر ايمن بهجت قمر تقديم معالجة معاصرة لنص والده الراحل، قدمها للقطاع الخاص مع الفنان أحمد السقا وريم مصطفى، واليوم يعيد محسن رزق تقديمها بصياغة كوميدية جديدة على خشبة المسرح القومى ولكن هذه المرة قرر رزق التوجه إلى المنبع الأصلى حيث اتخذ على عاتقه تقديم نص شو بعيدا عن التعرض لفخ المقارنة مع إبداع «بهجت قمر» فى رائعته «سيدتى الجميلة» ليقدم رزق تجربته الخاصة فى قراءة نص برنارد شو على مستوى الصناعة الفنية وتقديم فنون الفرجة المسرحية بإبداع مغاير للتجارب السابقة.

   «سيدتى أنا».. تحاكى نص برنارد شو فى رسم الشخصيات كما كتبها المؤلف حيث تدور الأحداث فى لندن مع بائعة الورد إليزا دولاتيل لكن مع إجراء بعض التعديلات فى كتابة وصياغة الحوار بين الشخصيات الذى قدم كوميديا نابعة من الألفاظ والتعبيرات والمواقف الأقرب للبيئة المصرية، نسج المخرج والمعد محسن رزق كوميديا تحاكى خيال الشعب المصرى والثقافة المصرية على ما ابدعه برنارد شو من ثقافته الإنجليزية، يلتقى عالم الصوتيات الدكتور آدم بإليزا فى طريقه ويحدث بينهما حوار يدون بعض الفاظها السوقية الغريبة التى تلفت انتباهه ثم تتصاعد الأحداث بذهاب الفتاة إليه تطالبه بمساعدتها كى تتحول إلى فتاة من الطبقة الراقية حتى تحسن من مستواها، تقع فى حبه ..يرفضها فى البداية ثم يفطن إلى أنه اعتاد عليها وعلى وجودها فى حياته ويعترف بحبه لها رغم عقدته الكبرى من النساء بعد أن غدرته حبيبته السابقة.

يحمل النص أكثر من خط درامى فهو يناقش الصراع الطبقى بين طبقتين الطبقة الأرستقراطية والطبقة المعدمة الفقيرة وكيفية حدوث تمازج بينهما، يتناول مبادئ كل طبقة ووجهة نظرها فى الحياة برغم أن هذا الرجل المنتمى إلى الطبقة العليا يتقن أصول الحديث والحياة الاجتماعية إلا أنه لا يتقن الحياة فى عفويتها والاستمتاع بها وببهجتها دون تصنع أو كلفة بينما على النقيض فى حين أن هذه الفتاة لا تتقن أصول اللغة إلا أنها تعيش الحياة بعفويتها، علمها المبادئ المادية للتعايش مع الطبقة الراقية، وعلمته المبادئ الإنسانية والروحية للتمتع بالحياة والانغماس بها بدلا من أن يعيش على هامشها.

سخر شو بالكوميديا من هذه الطبقة الأرستقراطية العليا ونساء هذه الطبقة اللاتى لا يشغلهن سوى الظهور بمظهر المانيكان دائما يتجرد معظمهن من الروح، كما سخر من انغلاق تلك الطبقة على نفسها وتعاليها على من هم دونها برغم أن هؤلاء الفقراء يتقنون فنون الحياة والتمتع بها على عكس تحجر طبقتهم الراقية، بجانب تناول علاقة الرجل بالمرأة وكيفية تخلصها من سيطرته وسطوته حتى ولو أسهم فى اكتمال ونضج هيئتها الشكلية، فتحول من رجل نرجسى أحب نفسه فيها يتغزل فى صنعته إلى رجل عاشق لها، من هذا النقد الاجتماعى كانت عظمة «بجماليون» التى ظلت حية متجددة نابضة باشتعال الإبداع فيها وإعادة صياغته بأشكال وانماط فنية متعددة.

امتلك محسن رزق حرفة فنية عالية فى تقديم فنون فرجة مسرحية اعتمد فيها على الإبهار بعناصر المتعة البصرية الديكور والأزياء والغناء والاستعراض خاصة بمشهد السيرك الذى تحول فيه المسرح إلى سيرك متكامل بأداء اللاعبين مع الممثلين وتبدل الديكور، استغل مهندس الديكور حمدى عطية الشاشة الكبرى فى عمق المسرح من الداخل بتغيير المناظر عليها التى صورت شوارع لندن مسرح الأحداث ثم صنع ديكورا ضخما سهل الحركة ملتحما بالشاشة الكبرى فى تبادل المشاهد المتفرقة بالعرض، كما قدم الفيلم السينمائى حالة من المتعة بالحوار الغنائى والملابس والاستعراض اتخذ رزق من المتعة والكوميديا سبيلا لإنجاح تجربته بالأشعار المغناة للمؤلف عادل سلامة موسيقى وألحان محمود طلعت، واستعراض مصطفى حجاج، ومروة عودة التى ابدعت فى تصميم ملابس العمل بالكامل ليخرج رزق بصورة بصرية استعراضية شديدة الروعة والاتقان أسهمت بشكل كبير فى نجاح العرض حيث كانت عنصر جذبه الأول لتوافد الجماهير على المسرح القومي، شغله تحقيق عنصر الاستمتاع أولا لمخاطبة قطاع عريض من الجماهير مع بعض الحرص على تقديم الرؤية الأصلية للنص المسرحى وليس كل الحرص!

كيف كان من الحرص بعضه وليس كله؟!..، ربما لم يتم رسم وغزل أبعاد الشخصيات بدوافعها النفسية بشكل واضح ومتكامل كانت من أكثر الشخصيات التى تم تعميق ابعادها النفسية وجاءت واضحة المعالم متعددة الأبعاد «دولاتيل» والد إليزا الذى حمل الكثير من الأحزان الداخلية والذكريات مع احتفاظه بسخريته من الواقع، لكن فى المقابل لم تكن شخصية الدكتور أو المعلم آدم على نفس القدر من القوة فى رسمها أو توجه البطل فى تقديمها بدت الشخصية فى كثير من الأحيان ضبابية محيرة، هل هو رجل أرستقراطى جاء من الطبقة الراقية أم رجل عصامى صعد بجهده لهذه الطبقة بعد معاناة من الفقر وبالتالى هو يقترب من طبقة إليزا أحيانا، لم تبرز الفوارق الاجتماعية بينهما التى بنى عليها النص الأصلى فكرته، قد يستخدم بطل العرض الكثير من الألفاظ والتعبيرات التى تخص طبقتها البسيطة السوقية حتى ولو على سبيل الكوميديا أو المداعبة بما لا يبرز قيمة الفوارق الطبقية بينهما، وبالتالى اهتم المخرج ومعه بطل العرض بلعب المزيد من الكوميديا على حساب نحت الرؤية الأصلية لقضية «بجماليون».

لكن بعيدا عن إشكالية وضوح الرؤية أو ضبابية شخصية البطل التى كانت متأرجحة بين الطبقيتن فى الأداء أحيانا وباستخدامها لبعض الألفاظ المتجانسة مع نفس الطبقة التى ينتقدها المعلم، إلا أن الفنان نضال الشافعى كان له حضور خاص على خشبة المسرح القومى بأدائه التمثيلى مع لعب الكوميديا بمهارة واقتدار فى خفة حركة جسده وروحه وخبرة السنوات التى بدت واضحة بأدائه المسرحى المتقن، كما شكل ثنائى ممتع مع داليا البحيرى التى يبدو أنها بذلت جهدا كبيرا يحسب لها فى أداء هذه الشخصية الصعبة التى تحتاج إلى مزيج من خفة الروح والحركة، اجتهدت البحيرى بشدة فى تقديم الاستعراضات وانسجمت بالرقص والغناء والتمثيل مع الكوميديا فى تقديم شخصية إليزا بائعة الورد وكانت مفاجأة تجاوزت التوقعات واجتازت الاختبار الصعب بذكاء وجهد يضاف لرصيدها الفنى، أما المفاجأة الكبرى بهذا العمل الفنان فريد النقراشى الذى لعب دور الأب بخبرة أستاذ صاحب مدرسة خاصة بمجال التمثيل كان للنقراشى ثقل وحضور كبير على خشبة المسرح القومى امتلك الخشبة بقوة حضوره وقراءته لهذه الشخصية الثرية نفسيا وفنيا، التى تحمل الكثير من الأبعاد النفسية المتضاربة والمشاعر المختلطة بين بؤس الفقر والحاجة والسكر والحياة البوهيمية إلى رجل صاحب قلب ومشاعر وطموح واحلام فى العزف والموسيقى التى تبددت مع الزمن ثم حبه لابنته واستغلالها فى نفس الوقت، تركيبة نفسية معقدة متعددة الأبعاد والانفعالات كان للنقراشى شأن خاص فى قراءتها ولعبها بحرفة واقتدار، وكذلك اشترك فى صنع الحالة المسرحية معهم الفنان محمد دسوقى بدور صديق الدكتور آدم، ونشوى حسن مديرة منزل الدكتور، كما كان من بين المفاجآت المهمة بهذا العرض اكتشاف مجموعة كبيرة من الشباب، مواهب أفصحت عن نفسها فى حضور جماهير المسرح القومى لتكتب شهادة ميلادها وتتلقى تأشيرة العبور للوسط الفنى من أعرق مسرح فى مصر، كان لهؤلاء الشباب حضورا مميزا احتفى بهم الجمهور احتفاءا كبيرا قدم كل منهم نفسه بخفة روح ومهارة وذكاء كان على رأسهم أمجد شاويشى ويلسون السكير، ثم أحمد علاء بلبل وفادى رأفت المساعدان لدولاتيل، عبد البارى سعد فريدى الخجول، أحمد محمد سعد كبير يوران القصر، محمد سلامة، أيمن صبحى، أحمد نادى عازف الهارمونيكا، خالد إبراهيم، ويسرا يسرى، برغم تفوق العرض فى عناصر الإبهار وتميزه بفنون الفرجة المسرحية إلا أنه امتد لساعات طويلة أدت لهبوط إيقاعه أحيانا فى مشاهد اعتمدت على حوارات مرسلة إذا تم الاستغناء عنها لن تخل بالأحداث أو الدراما، العرض إعداد وإخراج محسن رزق، تصميم إضاءة عز حلمى.