الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

محمد عبدالوهاب مجدد الموسيقى العربية

محطات فى حياة «موسيقار الأجيال»

مع اقتراب موعد مهرجان الموسيقى العربية فى دورته الـ 32 نتوجه بالسؤال إلى المؤتمر العلمى المصاحب للمهرجان الموسيقى العربية، إلى أين تتجه الموسيقى العربية؟ نرى مسارا يتجه نحو التجديد والتحديث والاستفادة من التقنيات المعاصرة والآلات الغربية، ومسارا آخر اخذ من التراث مرجعيته للتطوير، وما يهم الموسيقيين ومتذوقى الموسيقى الحفاظ على الشخصية الموسيقية العربية.



وبالعودة الى عصر موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب نجده أعظم نموذج حيا تعامل مع إشكالية التجديد والتحديث على مدار سبعة عقود عمره الفنى، من خلال الاستلهام الشرعى من الغرب فى شكل استعارة حضارية متوازنة ظهرت فى سلوكه التأليفى والتوزيعى (إغناء، لاإلغاء).

وهذا المضمون السابق نطرح تساؤلا ماذا قدم موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب للموسيقى العربية وفى عالم الأغنية والتلحين بعد سيد درويش؟.

ربما نتوقع أن الإجابة فقط فى رصد إنجازاته الموسيقية من ألحان وأغنيات له وللآخرين ومعزوفاته التأليفية وتحليل أعماله من حيث المقامات والإيقاعات، إلا أن السؤال السابق يقود إلى سؤال جوهرى ومفصلى من أين استقى وعيه الموسيقى؟ نظن أن تاريخ الميلاد يكفى أن يحدد جذوره الموسيقية، ولكن المفارقة أن أول الخلافات فى شأن محمد عبدالوهاب هى تاريخ ميلاده هل 1889,1902,1910,1914 هل هو ابن تراث القرن التاسع عشر أم القرن العشرين.

بكتاب «محمد عبدالوهاب – سيرة موسيقية» للمؤرخ الموسيقى دكتور فكتور سحاب تقديم سليم سحاب قائد أوركسترا وباحث وناقد موسيقى، الصادر عن دار «ريشة» للنشر والتوزيع، سرد تفاصيل كامل بالتنظير والتحليل الموسيقى لكل ما قدمه عبدالوهاب، اخترنا لكم محطات مختصرة من سيرة ومسيرة موسيقار الأجيال.

تضارب تاريخ الميلاد

كان عبدالوهاب يكرر فى حواراته أنه مواليد 13/3/1910 رغم أن واقعات كثيرة تقول إنه ولد قبل ذلك بسنوات، هل فى 1898أو 1902 أو 1910 تضارب مقلق فى تحديد البيئة الموسيقية التى نشأ فيها. 

ذكر سحاب: «لو فرضنا إنه ولد 1902 مثلا يعنى أن وعيه الموسيقى بدا يتفتح وينشأ فى عصر موسيقى ينتمى إلى القرن التاسع عشر لا القرن العشرين، وفارق السنوات الثمانى يفصل بين العصرين قطعا».

الباحث كمال النجمى ذكر أن عبدالوهاب مواليد 1898 نفس سنة ميلاد الكاتب توفيق الحكيم، يرجح سحاب أن يكون هذا التاريخ الأقرب لمسيرة الفنان مهنيًا. وبالبحث وجدت أكثر من توثيقية، الأولى بصحفية المقطم 1921 إعلان عن حفلة ليالى بكازينو «الكورسال» ويغنى بين الفصول «بلبل مصر» محمد عبدالوهاب، وإعلان آخر نشر بعده بفترة أغفل أى لقب لمحمد عبدالوهاب وهذا سبب للشك. وروى عبدالوهاب بنفسه أنه شارك فى تظاهرات الفنانين بعد اعتقال سعد زغلول 1921، فهل مثلًا كان بعمر التاسعة.

توثيقية «الأسطوانة البلاتينية» صدرت 1978 وفيها عدد من الأغنيات أحدهما أغنية «أتيت فألفيتها» لشيخ سلامة حجازى (القرن التاسع عشر) وكتب على غلاف الأسطونة: «إنها أول أغنية سجلها عبد الوهاب 1921 وكان عمرة الحادية عشرة، وتقاضى عنها جنيهين»، إلا أن صوت عبدالوهاب بالأغنية يبدو أكبر من مرحلته العمرية، ولو سمعنا أسطوانات عبدالوهاب» شركة بيضافون «1927 وأغنياته التسعة عشرة. منها: اللى يجب الجمال، أنا أنطونيو، فيد عشرة كوتشينة وغيرها يصعب إقناع المستمع أن عبدالوهاب كان عمره السابعة عشرة.

ومؤخرا وجد مرجعان كلاهما أثبت أن تاريخ الميلاد 13/3/1902 هو مخطوطة »سجل المكتبة الصوتية «للمؤرخ الموسيقى عبد العزيز محمود عنانى، والثانى كتاب» دراسات فى الموسيقى العربية «للمستشرقة السوفياتية د.«ايزبيلا يوليان «أكدت أن عبدالوهاب أبلغها بنفسه أنه مواليد 13/3/1902. ولا خلاف على يوم وفاته 3/5/1991.

وسوسة الموت

نشأ عبدالوهاب فى بيئة دينية عائلة محافظة أسرة «عبدالوهاب أبوعيسى» فى حى سيدى الشعرانى بالقاهرة، وكان صبيا نحيلا وروى عبدالوهاب أن حادثة الطفولة أثرت عليه حين صدرت له شهادة وفاة وهو فى الثانية من عمره وظنوا أنه مات وأخذوا يكفنونه لكنه فتح عينه، من تلك الفترة وأصبح الخوف متربصا له بين الحين والحين. حفظ القرآن على يد مشايخ سيد الشعرانى، ولكن شغفه للغناء جعله يغنى سرا بسبب رفض أسرته الغناء. سمعه أحد العاملين بمسرح فرقة فوزى الجزائرلى تياترو دار السلام غنى للشيخ سلامة حجازى «وليلاه ما حيلتى» فآخذه إلى الجزايرلى ووافق أن يغنى، ولكنه باسم مستعار «محمد البغدادى» خوفا من عقاب أسرته.

 

الأب الروحى

وبعد موافقة الأسرة ذهب ليغنى بفرقة المحامى عبدالرحمن رشدى بمسرح «برنتانيا»، يحكى عبدالوهاب: «كان أول لقاء بأمير الشعراء أحمد شوقى وحين سمعنى أغنى اشتكى الشرطة كيف لطفل صغير يسهر للفجر، وقتها كرهته لأنه حرمنى من أعز شىء لكنه دفعنى إلى التعلم... ودخلت» نادى الموسيقى الشرقى «الذى تحول إلى معهد الموسيقى الشرقى وتعلمت الموشحات وتعلمت العود على يد محمد القبيصجى، أحمد شوقى أستاذى الذى علمنى المعرفة واستمر برعايتى وأعطانى جواز سفر إلى صفوة مجتمعات العمالقة، كان هو أعظم كتاب أتعلم منه».

بحديث آخر ذكر عبدالوهاب أن اللقاء الثانى 1926عندما كان يغنى بحفلة نادى الموسيقى الشرقى السنوية بكازينو «سان ستيفانو» «أغنية عبده الحمولى»، جددى يانفس حظك «واتفقا معه أحمد شوقى على لقاءات عمل بالقاهرة. على الرغم من أن عبدالوهاب كان قد سجل على أسطونات «غراموفون» أربعا من مؤلفات شوقى 1924، وهذه الواقعة تعيدنا لتضارب التواريخ .

سيد درويش وعبدالوهاب

يحكى عبدالوهاب: «سمعت الشيخ سيد درويش يغنى» أنا المصرى كريم العنصرين «شعرت بانقلاب فى نفسى واكتشفت أن الفنان الذى فيه بذرة التطور يمكن أن يخلق من القديم جديدا. واكتشفت الفرق بين الفن الذى أدرسه بالمعهد الموسيقى والضوء الجديد الذى أتى به الشيخ السيد درويش». أما سيد درويش قال عنه: «إن هذا الشاب له مستقبل خطر فى عالم الموسيقى». وحين مرض سيد درويش اعتبره خلفيته بالموسيقى أرسله للمسرح يقوم بدوره فى مسرحية العشرة الطيبة، شهرزاد .

أعظم سبع سنوات

أعظم سنوات موسيقية بعمر عبدالوهاب قبل بدء المرحلة السينمائية من (1927 – 1933) والتى رافق فيها أمير الشعراء أحمد شوقى، بدأت بتلحين «فى الليل لما خلى» سجلت على اسطوانة «بيضافون 1932. ودعمه شوقى ونصحه أن يطلق الحرية لذاته ويلحن «للآذان الآتية، لا الآذان الذاهبة»، حصيلة الفترة نحو ستين أغنية كانوا بداية ثورة التغير والتطوير وقسمت الأغانى إلى خمسة أنواع موسيقية هما: الأدوار، القصائد، المواويل، الطقاطيق، المونولوجات.

ولم يضع سوى خمسة أدوار وأحجم بعدها أن متابعها منها: أحب أسوفك كل يوم، عشقت روحك، القلب يا ما انتظر. فى القصيدة غنى اثنتى عشرة أشهرهم من كلمات» يا جارة الوادى «التى أعلن بها عبدالوهاب استقلال خطه الغنائى عن ملامح غناء الشيخ سلامة حجازى والشيخ سيد درويش، وضع سبع طقاطيق أشهرهم: فيك عشرة كوتشينة، حسدونى وباين فى عينهم، خليف أقول اللى فى قلبي، لما أنت ناوى تغيب على طول، مين عذبك يتخلصوا منى.

وأنشأ عبدالوهاب شكلا موسيقيا مستقلا هو «الموال» وقدم إحدى عشرة أغنية منها: كل اللى حب اتصف، مسكين وحالى عدم. فصل عبدالوهاب الموال عن مهمة التمهيد للوصلة الغنائية حين كان الغرض هو» السلطنة «، وجعله أغنية قائمة بذاتها تبدأ بـ«الليالى».. وتطوره فيما بعد إلى فرعين الأول الموال المستقل في: فى البحر لوفتكوا، سبع سواقي. والثانى الموال كجزء من بنية الأغنية: أجر يانيل، ولية تشغل بالك. وفى أغنياته الكبيرة: ياورد مين يشتريك، ليه تشغل بالك. الحبيب المجهول، وأنسى الدنيا، أنا من ضيع فى الأوهام عمري، عاشق الروح.

المونولوج غنى ست أغنيات منها: اللى يجب الجمال، كلنا نحب القمر، بلبل حيران، مريت على بيت الحبايب، والمفضلة عند عبدالوهاب» فى الليل لما خلى «قال عنها:» وجدت نفسى التى كنت أبحث عنها فى هذه الأغنية»، أما الموشح فقد ابتعد عنه لأنه أراد الانفلات من مدرسة القرن التاسع عشر إلى رحاب القرن العشرين، إلا أنه استفاد من عناصر بناء وتكوين الموشح.

مؤسس الأغنية السينمائية

لم يكن عبدالوهاب صاحب أول فيلم غنائى كان الشيخ زكريا أحمد بفيلم «أنشودة الفؤاد» واحد أسباب عدم نجاح التجربة أن قواعد الأغنية الشرقية (التخت) لا يناسب الفن السينمائى.

ولذلك «الوردة البيضاء 1933 الفيلم الأول لظهروا الأغنية السينمائية بسماتها التى أسسها عبد الوهاب. أولها الاستغناء عن المقدمة الموسيقية الطويلة للأغنية بدعم من المخرج محمد كريم وأخضعها للفن السينمائي. ليصبح الغرض من الأغنية تعبيريا بجانب الطرب، وعنصران نقلهما عبدالوهاب للسينما عن مسرح سيد درويش هما التعبير الغنائى التمثيلى والمحاورات الغنائية بين البطل والبطلة.

أفلام المرحلة كانت عن طبقات المجتمع الراقى الأقرب للغرب شكلا، لذا أدرك عبدالوهاب أنه حان وقت تطوير الغفوة فادخل على الأغنيات إيقاعات غربية التانغو والسامبا والرومبا مثل الأغنية الخالدة» جفنه علم الغزل «1933اول مرة إيقاع الرومبا الأمريكى اللاتينى وصنع من هذه الأغنية معجزة إيقاعية لن تكرر. قدم ثمانية أفلام على مدار 16 عاما من 1933-1949 هم: الوردة البيضاء، دموع الحب، يحيا الحب، يوم سعيد، ممنوع الحب، رصاصة  فى القلب، لست ملاكا، غزل البنات.

وقدم 71 أغنية فى أفلامه منها: عندما يأتى المساء، يادنيا ياغرامي، ياورد مين يشتريك، يا مسافر وحدك، كإنش على البال، أنسى الدنيا، لست أدرى، حكيم عيون. أما «عاشق الروح «أكبر فرقة موسيقية فى تاريخ الموسيقية العربية أوركسترا 85 عازفا ومنشدا، كما انطلق 1933 بأول معزوفة موسيقية» فكرة «بفيلم الوردة البيضاء، وقدم فيما بعد 61 معزوفة، 55 أغنية وطنية من 1921-1970.

 

الآلات الغربية والمقامات العربية

انتقل بعدها لحقبة غنائية ثرية من 1951 – 1959 أميريهم بحسب التنظير الموسيقى: على أية لتلومني، كان أجمل يوم، آه منك ياجارجنى، أنا والعذاب وهواك، لا مش أنا اللى أبكى، على بالى ياناسينى، هان الود. يظهر فيهم إيقاعات أمريكا اللاتينية والسامبا البرازيلى وغيرها. استخدام المقامات العربية الأصيلة والآلات الغربية والعربية بتوازنات وأسند التوزيع للموزع «أندريا رايدر».

وبعد الحمسينات خلت أغنياته من الملامح الغربية ولم تخل من الآلات الغربية استفادة من أساليب العزف المتطورة التى لا تؤذى الصفة العربية. انصرف من نهاية الخمسينيات والستينيات عن الغناء بنفسه وقدم ألحان لغيره: أم كلثوم، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، وردة، عبدالحليم حافظ.

حول التجديد والتحديث فى الموسيقى يقول عبدالوهاب: «التجربة علمتنى أن الفنان يجب أن ينظر إلى الخلف وأن تكون بينه وبين القديم صلة، يخرج الفن الجديد من القديم مثلما الابن امتداد للأب والأم، امتداد متطور مستقل له شخصيته وكيانه، وفى الوقت نفسه يحمل من ملامح أصله القديم.

وعمرى ما تمنيت أفقد ذاكرتى الموسيقية التى حفظت القديم لأنها نعمة، ولكن الخوف أن تتحول الذاكرة إلى نقمة حين يرغب المرء فى الهروب».

مهرجان الموسيقى العربية

استخدم عبدالوهاب إيقاعات الغرب فى التطوير والتحديث بدا من أغنية «فى الليل لما خلى» 1932،. ولو لم يفعل ذلك التحديث لربما تعثرت مسيرة تطوير الأغنية العربية والموسيقى فى القرن العشرين، وحين سال عن رأيه فى مزج وتتداخل الآلات الموسيقية الغربية بالموسيقى العربية أثناء مهرجان الموسيقى العربية الأول 1932 قال: «أرفض دخول كل الآلات غير الوترية لأنها تحتاج إلى بحث دقيق والوقت مبكرا لتقييمها وتقديمها. أما الالآت غير الوترية بسائر أنواعها صالحة للموسيقى الشرقية». واتفق معه فى الرأى محمد القصبجى. 

سرقة أم اقتباس ؟

كان لعبدالوهاب متربصون واتهام أنه «متفرنج» و«سارق الألحان» نشر عام 1979بالصحافة أن منظمة الأمم المتحدة «يونسكو» تتهم عبدالوهاب بسرقة 13 لحنا موسيقيا فى نفس التوقيت كان عبدالوهاب يستقبل أنور السادات عائدا من كامب دافيد إذا التهمة سياسية وليس فنيا. وبعد ثلاثة شهور تنصلت اليونسكو من الاتهام وأعلنت تكريم عبدالوهاب.

فكتب المايسترو سليم سحاب ثلاثة مقالات مطولة ردا على الاتهام ومبرراته وناقش الاقتباس وأهمية الاستلهام الموسيقى الشرعي. جاء فى أحدهما أن بيتهوفن وباخ وموتسارات وتشايكوفسكى وموزار عباقرة الموسيقى الكلاسيكية لا نقول إنهم سرقوا بل استلهموا. وإن الاقتباسات موجودة فى جميع ميادين الفن، ولولا الاقتباس لما كان هناك تقدم فى العطاء الإنسانى.