الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«ياسين وبهية» رائعة نجيب سرور بإبداع شبابى اهتزت له القلوب

متهم جيل الشباب بالإبداع المنقوص بسبب الخلل أحيانًا فى رؤية وإدراك النصوص المسرحية أو الشعرية الخالدة التى صنعت تراثًا مسرحيًا لجيل كامل من المبدعين؛ حتى لو امتلك هؤلاء بذور موهبة ومهارات إخراجية مبهرة قد يشهد لها الجميع؛ إلا أن البعض ما زال فى مرحلة التكوين والحاجة لتراكم خبرة وتجربة تؤهله للاقتراب من الكلاسيكيات والملاحم الخالدة التى تحمل قدرًا كبيرًا من الثراء الفنى والفكري؛ لكن يأتى أحيانًا ما يتجاوز التوقعات والمألوف ويخرج علينا مخرج شاب حديث العهد بالاحتراف مثل يوسف مراد منير بمفاجأة سارة؛ حيث أقبل يوسف بحماس متقد ووعى كبير ليقدم ملحمة نجيب سرور الشعرية «ياسين وبهية» فى عمل مسرحى على خشبة مسرح الشباب تحت قيادة مديره المخرج سامح بسيونى وبدعم ومؤازرة المخرج خالد جلال رئيس قطاع الإنتاج الثقافى والمشرف على أعمال البيت الفنى ليطلق بهذا المشروع مبادرة المخرج المحترف.  «ياسين وبهية».. أسطورة نسج منها نجيب سرور قصة وبناءً فنيًا وشعريًا للبطل الشعبى من خلال قصة حب تطورت إلى قصة حرب للدفاع عن الأرض والعرض, بعد موت والد ياسين فى المنفى سلب الباشا أرضه؛ يزرع الفلاحون ثم يشترى الباشا والإنجليز الحصاد بثمن بخس لا يحصلون منه على شىء؛ وبعد سلب الأرض يسعى الباشا لسلب حبيبته بهية والتى يعلم الجميع أن مثلها من يدخل القصر لا يعود كما كان..» تذهب البنت إلى القصر خفيفة ولطيفة كالفراشة.. بعد عام ترجع البنت ثقيلة مثل قربة.. وذليلة مثل كلبة»؛ يحاول ياسين الدفاع عن حقوق الفلاحين وحقه فى الأرض وحماية حبيبته من الاغتصاب والهوان لكنه يلقى حتفه نظير جرأته على المقاومة.



 كان نجيب سرور صاحب تفرد واستثناء فى نسج دراما شعرية رفيعة عميقة الأثر فى وجدان المستمعين تغرقك فى مأساة مجتمع قرية «بهوت» الذى عانى الذل والظلم والهوان؛ استعرض سرور أنماطًا إنسانية واجتماعية أطلقها من الحب.. قصة حب نسجت خيوطها كخيوط العنكبوت ليستعرض خلالها قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وحب الأرض والوطن فى سرد شعرى بديع يروى لنا سرور حكاية بهية يصف ويدقق الوصف فى حسنها وحبها.. وإخلاصها لحبيبها وشجاعة ياسين وبسالته رغم عجزه الاقتصادى عن الزواج منها والوفاء بعهد الحب؛ إلا أنه كان باقيًا على عهد الرجولة فى السعى لحماية أرضه وعرضه الممثلة فى حبيبته؛ كتب سرور ملحمة فى حب الوطن باستعراض أوضاعه والجهاد فى سبيل الدفاع عنه والاستشهاد دونه؛ ويأتى مخرج شاب حديث العهد بالاحتراف الفنى, ليقرأ كل هذه الأبعاد النفسية والروحية والاجتماعية لرائعة سرور ويقدمها فى عمل مسرحى اكتملت أركانه حتى من ملامح اختيار أبطال القضية.

  لم تكن قضية «ياسين وبهية» مجرد سرد لقصة حب عابرة بينما هى سرد لواقع شعب عانى مرارة الفقر والقمع فى زمن الإقطاع بالفروق الطبقية العنيفة بين أفراده.. من هذا الوعى الطبقى الكبير انطلق خيال المخرج الشاب لاختيار موقع أحداث القضية خشبة مسرح العائم الصغير مسرح الشباب الذى بدأ كل شىء فيه باهتًا كئيبًا مثل قريته «بهوت» والتى علقت لافتة تشير إليها فى ممر حديقة المسرح العائم موقع الأحداث؛ ثم اختيار ملامح الممثلين الأقرب لملامح الأرض التى يفلحونها وهيئتهم الخارجية التى بدأ عليها القحط والفقر الشديد؛ حتى أن بعضهم حافى القدمين لعدم امتلاك هؤلاء أموالًا لتكتمل بها هيئتهم الخارجية؛ بين إضاءة باهتة وديكور بائس حزين صنع من الخشب وجريد النخيل يقترب من ملامح أفراد سكان قريته المعدمين امتزجت كآبة الإضاءة والديكور بكآبة هذه القرية البائسة, ثم انطلق أبطال العرض بالحكى والسرد والتمثيل والغناء والعزف الموسيقى الحى لتقديم ملحمة سرور الشعرية.

لم يقتصر وعى المخرج بالنظم الشعرى فى سرد الأحداث ومجرد ترديده على لسان الأبطال, بينما امتد وعيه وإدراكه للقيم الإنسانية والروحية لهذا النص الشعرى مكتمل المعانى الدرامية واللفظية؛ ففيه الإيمان بالحب والحلم والنبوءة وأسلوب وسلوك الخيال الشعبى والوعى الجمعى فى تفسير هذه النبوءة بين رغبة بهية وأمنيتها التى رأت من خلالها حلمًا تتابع من خلاله أحداث العرض؛ تفسر الأم الحلم كما ترسخ فى وجدانها من تأويل معان ورموز مثل الحمامة البيضاء فوق رأسه والريح والشال الأحمر والمركب.. تهم الأم بطمأنتها وكذلك العرافة بتأويل الحلم حسبما اتفق عليه خيال هؤلاء عن تلك الرموز وحسب الرغبة فى تحقيق أمنية طال انتظارها وعز تحقيقها؛.. ليبنى الحلم كتلة من الأسى والحزن المتراكم على مدار العرض ويطلق العنان للصراع النفسى داخل بهية؛ التى تظل تسعى لتأويله متأرجحة بمخاوفها؛ ثم يتأسس ويتصاعد الصراع ويفسر الواقع نبوءة بهية بقتل ابن عمها بعد أن تهب الريح العاتية لتدمر قصة حبهما بسرقة الحبيب من محبوبته؛ استطاع المخرج ومعه أبطال العمل بذكاء الكبار ومهارة المحترفين تقديم هذا الإبداع الفنى والصراع النفسى الاجتماعى الداخلى فى عمل مسرحى امتزجت عناصره الفنية فى وحدة واحدة, امتلك يوسف حساسية كبيرة فى توزيع الحكى وتدويره بين الممثلين بسلاسة ومرونة الدخول والخروج من سرد الحكاية على لسان الرواة ثم تقديمها فى قالب درامى؛ توزع الحكى على أكثر  من راو بما فيهم المخرج نفسه ثم ينتقل الراوى من الحكى إلى التشخيص؛ وذلك مع الحرص على استخدام أشعار تتوافق مع روح وإبداع سرور مواويل الأدب الشعبى والرقص والغناء وأشعار أحمد فؤاد نجم؛ فؤاد قاعود؛ وسمير عبدالباقى؛ ليقدم إبداعًا خاصًا وفرجة شعبية ممتزجة بالدراما الإنسانية والحس الوطنى؛ بإيقاع سلس متناغم يشبه النظم الموسيقى للأشعار التى يلقيها على مستمعى حكاية «بهية» فى بهوت!

تعمد مراد اختيار الممثلين بعناية بدءًا من بهية إيمان غنيم خمرية البشرة صاحبة العود الصلب الأشبه بعود النخيل والأقرب إلى الملامح المصرية الأصيلة وكأنها خرجت من بطن هذه الأرض بهذه الملامح الأخاذة الكحيلة أبدعت غنيم فى أداء دور الحبيبة المخلصة القلقة على حبيبها؛ العذبة المنطلقة بحبها البريئة الحالمة الخجولة والمقاومة لكل ما يعترض طريق هذا الحب حتى ولو كانت نبوءة دفعتها للدخول فى صراع أوديبى مع القدر؛ ظلت تردد الرؤية عسى أن يطمئن قلبها وتشفى من هذه الرهبة التى سيطرت واستقرت فى وجدانها؛ بخفة ورشاقة ووعى بأبعاد الشخصية التى تحمل مزيجًا من العذوبة والمقاومة لاحتلال آخر هم أن يمتلك جسدها وينزعها من حبيبها.. جسدت غنيم بهية بهذا الخليط من المشاعر الوجدانية الفياضة والمتناقضة بين فرح وحزن وخوف وحرص وأسى وفجيعة.. وهى تكرر حكى الحلم فى نهاية العرض باكية على جثة الحبيب المقتول؛ خفق قلب الحضور ودمعت العيون وتماهى معها الجمهور زلزل نحيبها الوجدان وهى تعيد حكى رؤيتها وما كانت تخشاه بأداء من هزمه القدر؛ ثم يأتى دور الأم للممثلة الشابة آية أبوزيد الذى لعبته بثقة ومهارة المحترفين تلونت آية بالدخول والخروج من دور الأم إلى دور الحكاءة بالسرد والتعليق على الأحداث.. ثم تجسيد دور أم بهية بمذاق وأداء ممثلة صاحبة خبرة بفن التمثيل رغم حداثة عهدها فهى ما زالت طالبة بالمعهد العالى لللفنون المسرحية, بينما تأتى الموهبة لتمحو وتعلو على التقدير العمرى لها تتجاوز السن والخبرة بالتنوع وعمق قراءتها للشخصية تتبدل بين الأدوار بسلاسة وخفة واقتدار ورشاقة من أمتعه خوض اقتحام عالم التمثيل؛ ثم حازم القاضى فى دور ياسين الذى اكتملت به الصورة والحكاية وشكل ثنائى فنى بديع مع غنيم ليحيى بأدائه صورة الفارس والبطل الشعبى الحائر بين الهجرة والبقاء للمقاومة بسلاسة وهدوء وتأن كبير؛ ويوسف مراد منير فى دور الأب والحكاء ليكتمل إبداعه ومهارته بقدرته على الحكى والتمثيل والإخراج فى آن واحد وهو ما يصعب على محترفين كبار؛ لكنه استطاع بجرأة خوض هذه التجربة والتفوق بكل عناصرها الفنية؛ وكذلك ليلى مراد الحكاءة القادمة من خيال الأساطير الفتاة الصغيرة التى تمتلك فى ملامح وجهها براءة الأطفال وهدوء الملائكة تروى على لسانها بانسياب مقاطع من الحكاية, ثم تلعب دور العرافة الغجرية المبشرة بوجهها المشرق لتحمل لبهية تأويلها الخاص فى تفسير حلمها كما اتفق عليه الخيال الشعبى والوعى الجمعى بتأويل الرموز؛ ويكتمل إبداع هذا العمل الشبابى الاستثنائى الذى حمل فى طياته رائحة الزمن الجميل واهتزت له قلوب الحاضرين.. بمشاركة الشباب سمير عوض؛ بهاء سليمان؛ وشيخ الغفر أحمد شحاتة؛ مصطفى علاء؛ محمد البرنس؛ حسام حسن؛ ريمون أشرف؛ صابر على؛ عود وتأليف موسيقى وألحان محمد علام؛ أزياء رحمة عمر؛ وديكور عمرو الأشرف؛ دراما حركية محمد بيلا؛ غناء فتحى ناصر.