الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بأم عينى 1948.. وكلارينت

فلسطين بطل ختام «مهرجان الرحالة» تروى سيرة حب وحرب بعيون أصحاب القضية

اختتمت فعاليات الدورة الثانية من مهرجان الرحالة للفضاءات المفتوحة بمقر ساقية الدراويش بعمان، والذى أعلن خلالها رئيس المهرجان المخرج حكيم حرب عن استقراره بهذا المكان كمقر دائم لفريق مسرح الرحالة وسط جموع الجماهير من رواد المقهى الاستثنائى الذى يضم ساحة مفتوحة للعرض المسرحى وخشبة مسرح أسفل المقهى تتيح للفريق تقديم أعماله داخله، بين أحضان هذه الساحة المفتوحة المطلة على جبل عمان أقيمت فعاليات حفل الختام، وأعلنت لجنة التحكيم برئاسة المخرج العراقى جواد الأسدى أسماء الفائزين، حيث حصد عرض «الطوافة» جوائز المهرجان للمخرجة شفاء الجراح.



 

«بأم عينى  1948»

بعيدا عن الشكل التقليدى للمهرجانات المسرحية وزحمة الفوز والمنافسة على الجوائز، كانت فلسطين البطل الحى الحقيقى لفعاليات المهرجان خاصة يوم الختام، استلم الجميع الجوائز بينما ذهبت الجائزة الكبرى للجمهور عندما بدأ عرض «بأم عينى 1948» للكاتب والمخرج والممثل غنام غنام الذى امتلك بخفة واقتدار مفاتيح الجمهور بإتقانه لفنون السرد القصصى والحكى والغناء وقدرة متفردة على سحب الحضور وإدماجهم بالحكاية، ثم تجسيد هذه الحكايات المؤلمة بأداء مسرحى، لم يشبه العرض الأعمال المسرحية التقليدية فى هيئته الشكلية أو حتى محتواه الفنى، بمزيج من المتعة والألم قدم غنام جزءًا من سيرته الذاتية التى تعتبر الجزء الثانى من ثلاثية يعد لها عن قصته مع الاحتلال الإسرائيلى بدأها بـ «سأموت فى المنفى» واليوم يستكملها «بأم عينى 1948».. إيمانًا منه بحكمة الراحل إدوارد سعيد التى يرددها دائما «على كل فلسطينى أن يروى روايته».. قرر غنام استغلال روايته الغنية بمادة درامية يعجز خيال المؤلفين عن حبك وغزل خيوطها فى عمل فنى درامى، هنا سترى ما تجاوز كل خيال.. ستسمع بأذن صاغية وقلوب دامية.. وعيون دامعة روايات وحكايات قصصًا إنسانية من واقع الحياة فى فلسطين ربما لم يسبق لك أن سمعتها أو شاهدتها على صفحات الجرائد أو شاشات الأخبار، قصصًا بعيدة عن العيون.. قريبة إلى القلوب، كان للمهرجان دور أشد وأعمق من منافسته وجوائزه بخلق هذه الحالة الحميمية وإيقاظ الضمائر الوطنية بين قلوب الحاضرين، ساهم فى التذكرة بالقضية الفلسطينية وفى كشف المزيد من خبايا وأبعاد قصصها الإنسانية البعيدة عن مرأى ومسمع الكثيرون إلا من أصحاب القضية، بعيون أصحابها وبأنين أبنائها حكى غنام تلك السيرة الاستثنائية، قدمها بصيغة الحكواتى المثخن بالجراح يحكى ويسير بين الجماهير بشغف ولهفة طفل صغير اشتاق إلى حضن أمه التى هجرها بلا رجعة، جلس الجمهور فى وضع دائرى حوله يتوسطهم بكوفيته الفلسطينية وتتابع تنهدات صدره ..يتنهد معه الحضور يشاركه الغناء والضحك والبكاء فى تصاعد حكايته الدرامية مع الاحتلال الذى يمنعه من دخول فلسطين وزيارة ابنتيه، ظلت هذه الزيارة عزيزة حتى إنه ظل يعلن عنها لكل زائر لعرضه من الأرض المحتلة 48 من منهم جاء لمشاهدة أحد عروضه فى رام الله أو الخليل لا يخفى لهم شوقه لزيارة «ترشيحا» و«يافا» و«عكا» يحكى ويستطرد فى التفاصيل حتى يعيش الجمهور معه وكأنه صار جزءًا منها يشم معه رائحة بحر عكا، ويتذوق معه طعم أكلها ونسيم هوائها، جسد صورة حية بالحكى والكلمات اصطحبك معه وأنت جالس على كرسيك بمقهى ساقية الدراويش بالأردن عبرت فى رحلة قصيرة بآلة الزمن وسافرت بالخيال إلى أرض فلسطين المحتلة، اختلست معه الزيارة واللحظات الممتعة الدافئة فى هذه المغامرة التى استطاع أن يحققها خلسة بعد أن نجح فى التخطيط بمساعدة مجموعة من الأقارب والأصدقاء للدخول إلى ترشيحا حيث تسكن ابنتاه، مسموح له بالدخول إلى جزء من أرض السلطة الوطنية الفلسطينية لكنه لن يستطيع التعمق إلى الداخل، يتذكر ويروى أجواء الترتيب والتخطيط إلى هذه الزيارة التى استطاع أن يقتنصها عام 2017 وذهب إلى عكا وحيفا وأخذ يغنى ويردد بعض الأغانى من تراث المقاومة الفلسطينية ويردد معه الجمهور، حالة من التفاعل والمعايشة بالغناء والبكاء تمكن غنام من إدارتها مع الجماهير وهو يقف بينهم مثل قائد الأوركسترا «المايسترو» الذى يدير مجموعة من الموسيقيين حوله متابعين إشارته وحركته ولفتاته فهم جزء لا يتجزأ من عمل حى البطل فيه كان الصدق وليس المحاكاة بالإيهام والكذب.. «بأم عيني» كتاب ألفته المحامية فليتسيا لانغر التى «كانت إسرائيلية» وهى التى دافعت وترافعت لصالح المعتقلين الفلسطينيين فى سجون الاحتلال، ومن بين الذين ترافعت عنهم خلال عملها رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة عام 1979 الذى صدر أمر عسكرى بطرده، والذى تعرض لمحاولة اغتيال بزرع قنبلة فى سيارته من قبل عصابات إسرائيلية أدت إلى بتر مزدوج للساقين، هكذا يروى غنام مرجعية تسمية العرض بهذا الاسم كما يشير إلى المعنى الحرفى لاسم العرض باعتباره شاهد عيان رأى بعينه كل ما حدث وما زال يحدث، تجربة مسرحية رائدة تمثل نموذجًا أصيلًا لمسرح المقاومة بتسجيل سيرته الذاتية لحفظ الذاكرة برواية دراما إنسانية من داخل أرض الزيتون!

 

«كلارينيت»

اشترك معه عرض «كلارينيت» فى مسرح السيرة الذاتية وفى عذوبة الحكى والقدرة على المعايشة برواية مجموعة قصص حقيقية من حياة بطل العرض فادى الغول عن ذكرياته أثناء وقوع حرب لبنان عام 1982 ذكريات الطفولة وقت الحرب وأجواء تلك الحرب وتنقل العائلة وأول قصة حب ثم ولعه بالموسيقى بسبب حبيبته واكتشافه لآلة الكلارينيت..فى مسرح مكشوف وفى مساحة تشبه البيوت القديمة التى بدت أشبه وأقرب لحكايات فادى عن ذكريات طفولته وأمه استطاع فادى أن يشرك الجمهور معه فى الغوص بين هذه الذكريات بعذوبة العزف على البيانو وآلة الكلارينيت مع اتقانه كممثل متعدد المواهب والأوجه، روى فادى حكايته عن الحب والموسيقى والحرب والعائلة، كيف جمع كل تلك الأضداد معا هذه المتناقضات المقبلة من واقع الحياة المتكرر فى كل زمن وحين وكأن فادى يمزج بين ماضيه فى لبنان وحاضره الحالى فى فلسطين عن الحرب الدائمة المتكررة التى لا تنتهى ولا تنتهى معها الحواديت والقصص والذكريات، بتلك الروح وبهذا العمق الإنسانى أغرقنا فى سيرته الذاتية ليحولها إلى سيرة مسرحية غنية بالحركة والرقص والموسيقى والحكى والتمثيل، قدم مقطوعة موسيقية من دراما واقعية لا يكف عن حكيها وتقديمها منذ عام 2009 على مسارح عربية وأوروبية لمدة عشر سنوات متصلة، حتى إن العرض تمت ترجمته لأكثر من خمس لغات طاف العالم وعرض أكثر من 200 مرة وفى كل مرة يستمتع الجمهور ويسافر معه فى قطار الذكريات وكأنه أصبح جزءًا من تلك الحكاية.

 

«من يريد البقاء 2077»

قدم من دولة فلسطين أيضًا العرض المسرحى «من يريد البقاء 2077» بطولة إميل سابا وإخراج سايمو ايلفلر، كانت المفاجأة أن العرض خرج من أجواء الحرب أو القضية الفلسطينية ليتناول العالم بشكل أرحب وأوسع من القضية نفسها فى حين انشغل السابقون بالتذكير بالقضية بينما قرر أن يذكرنا هذا العرض بقضية أخرى لا تقل أهمية عن قضية صاحبها الكبرى «فلسطين».. الأزمة المعاصرة التى تشغل العالم اليوم والرعب من تلاشى العنصر البشرى على يد الذكاء الاصطناعي، مونودراما تناولها المخرج فى قضية محقق هو الوحيد الذى بقى على قيد الحياة ويتورط فى مؤامرة تهدد فناء البشرية، على الرغم من جودة الفكرة ومعاصرتها للواقع الحالى، فإن اعتماد الممثل إميل سابا على الحكى والتقمص لكل الشخصيات التى أحاطت به فى العرض المسرحى أدى إلى ضيق مساحات الدراما والتمثيل بالعرض مما ظلم البطل فى إمكانية تقديم شخصية مكتملة الأبعاد والهوية نطلع من خلالها على موهبته الغنية التى أفصح عنها العمل بجدارة حيث تميز بقدرته على التنقل بين أكثر من شخصية لكن بسرعة خاطفة لاعتماد العرض على تكنيك الحكى وسرد القصة أكثر من التمثيل، ما أوقع العمل فى فخ الملل ورتابة الإيقاع بجانب صعوبة ملاحقة الجمهور لتتابع الأحداث التى يرويها من كثرتها ومشقة اكتمال الخيال فيها بسبب سرعة وتعدد تنقل البطل بين هذه الشخصيات بإيقاع لاهث متوتر أضر بموهبته أكثر ما أضاف لها، لكن على الرغم من عدم استغلال المخرج للنص بشكل جيد يتيح له تقديم صورة مسرحية ومواهب تمثيلية باتساع ورحابة، فإن اميل سابا استطاع إظهار جانبا من موهبته التى تحمل المزيد!