الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

درويــش الموسيقى

100 عام على رحيل مجدد الموسيقى العربية فى القرن الـ20

سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة، طلعت يا ما أحلى نورها، أنا هويت وانتهيت، أهو ده اللى صار، زورونى كل سنة مرة، بلادى بلادى، أنا المصرى كريم العنصرين، الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية.. 



الموسيقار خالد الذكر سيد درويش (1892 – 1923) من شدة شهرته ظننا أننا نعرفه مع أننا لا نعرف عنه سوى أنه مغنى تلك الأغانى، ونردد تلك العناوين والصيغ الجاهزة أنه زعيم التجديد بمطلع القرن العشرين، وأحدث ثورة فى الموسيقى العربية تختلف تماما عن حالة الموسيقى العربية فى القرن التاسع عشر وما قبلها، ولا نعرف كيف أحدثها وما هى طبيعة التجديد الموسيقى التى أضافها. بل ونقول إنه وطني واجتماعي ينتمى إلى كل طوائف الشعب ولا نعرف ما هى أسبب انحيازه إلى الشعب وأحواله.

د.فكتور سحاب المؤرخ والناقد الموسيقى وكتابه (سيد درويش – المؤسس) فى أول تعاون مشترك بين «دار نلسن» بيروت، ودار «ريشة» للنشر والتوزيع «بمصر 2022. كتاب مرجعى خاضع للتحليل المؤسيقى الدقيق رصد معالم التجديد الموسيقى عند سيّد درويش، وتتبع الروافد التى أسهمت فى تكوين شخصيتة الفنية والموسيقية وجعلته علامة فارقة على الموسيقى الكلاسيكية العربية المعاصرة. 

لاحظنا تضاربا بتاريخ وفاة سيد درويش.. ذكر د.فكتور سحاب بكتابه أنه رحل يوم 23 سبتمبر، بينما فى أغلب الاحتفالات الرسمية 10 سبتمبر، وفى بعض المقالات 15 سبتمبر، ووجدنا أن الاتفاق الوحيد بين الكل فى سنة الرحيل 1923.

البدايات

عدة روافد بيئية وتاريخية فنية وثقافية أسهمت فى تكوين وجدانه هي: تجويد القرآن، الموسيقى الشامية، والفن الأوبرالى الإيطالي، الغناء القومى، المسرح الغنائى. ولم ينل أى تعليم مدرسى فى الموسيقى.

أول هذه الروافد.. ولد السيد درويش البحر مصطفى وشهرته الشيخ سيد درويش 17 مارس 1892 أواخر القرن التاسع عشر، ولد بحى كوم «الدكة» الشعبى بالإسكندرية، ولأم قديرة على فقرها اسمها «ملوك»، تفتحت أذناه على الموسيقى كان زمن الوصلات الغنائية والتواشيح وتجويد القرآن والمدائح والموالد، وزمن الاستماع إلى الأوبرا الإيطالية الوافدة، السياق التاريخى كان قد مضى على الجيش الإنجليزى عشر سنوات بمصر. وبدأت جذور الوطنية من جراء الاحتلال الإنجليزى.

ثلاث مدارس 

تجويد القرآن كان موضوعا أساسيا لتلك الفترة، ارتاد ثلاث مدارس الأولى: كتاب سيدى أحمد العياش، هى مدرسة تقليدية لتحفيظ القرآن الكريم وهو أيضا الضمان الأول لإتقان الغناء العربى، الثانية: مدرسة حسن حلاوة صودف وجود أستاذ «سامى أفندى» كان مولعا بحب الأناشيد الوطنية الحماسية، فى حقبة احتشدت فيها الحوادث السياسية. تضافر هذا الامر مع نزوع درويش مع الظرف التاريخى من اجل دفعه ليصبح فيما بعد موسيقيا نموذجيا فى اندفاعاته الوطنية. 

اضطربت حاله المالية والعائلية قرر أن يسلك نحو الغناء، وكان هذا لا يتناسب مع مكانته مقرئا، وكان لا بد من مسايرة أحواله العائلية والاجتماعية. خلع العمامة والقفطان وذهب للعمل كعامل بناء وكان يغنى للعمال يحثهم على الجد.

الثالثة: مدرسة شمس بحى رأس التين بالإسكندرية والتقى بالمدرس نجيب فهمى الذى يعمل بفرقة سلامة حجازى زعيم المسرح الغنائى فى مطلع القرن العشرين. وكان لهذه الصلة أثر كبير فى حياة سيد درويش الفنية وتراثه الغنائي. فبعد ظهوره المسرحى الأول وبمسرحية «غانية الأندلس» بمسرح سلامة حجازى مغنيا بين الفصول. ولم يتقبله الجمهور ودافع عنه حجازى وقال للجمهور: «درويش هو مستقبل الموسيقى والغناء فى الشرق، وهو خليفتى».

روافد خارجية

زار الشام مرتين الاولى عام 1909 والثانية من سنة (1912 إلى 1914) تعاقد مع متعهد بناء على الغناء للغناء للعمال وهم يشيدون حين لاحظ المتعهد أن الإنتاج زاد بفضل الغناء، وصدف فى مرة الأخوين سليم وأمين عطا الله جالسين على مقهمى وسمعاه وطلبا منه السفر إلى الشام، وللمرة الثانية تسنى له حفظ التواشيح والضروب الموسيقية القديمة وأناشيد الكنائس، وتعلم فى الشام على يد موسيقيين كثر، منهم عثمان الموصلى، وحفظ كل التراث العربى.

ورافد آخر بأنه يرتاد دور المسرح للاطلاع على أداء الفرق الأجنبية الوافدة إلى الإسكندرية والقاهرة خصوصا الأوبرا. شهادة الروائى والاديب توفيق الحكيم قال: «لقد رأيت سيد درويش بعيني، يأتى معنا إلى تياترو الكورسال، ليشاهد جوقة الأوبرا الإيطالية، تعرض توسكا، ومدام بترفلاى لبوتشينى، والبلياتشو لليونكافالو»، وثمة من يضيف أنه حين قالوا لسيد درويش إن رأسه أشبه برأس فيردى أعظم موسيقيى إيطالية، أجابهم: «أنا فيردى مصر». 

لذا كان أحد أهم طموحاته دراسة الموسيقى بإيطاليا إلا أنه رحل دون أن يحقق حلمه. تزوج بعمر 16 سنة، ولديه ولدان (محمد البحر، وحس البحر)، من أربع زيجات.

درويش وبديع بشبرا

اللقاء الأول بين سيد درويش الممثل والكاتب الساخر بديع خيرى كان بمسرحية «فيروز شاه» لفرقة جورج أبيض 1918 التى لحن فيها درويش كلمات بديع دون أن يعرفه وهى أغنية «دنغى دنغى» التى كتبها خيرى باللهجة السودانية، انتشرت فى أيام ثورة 1919.

هذه الغنوة كانا سبب أن أصبحا ثنائيا فنيا (درويش وبديع)، فأخذه بديع خيرى لمسرح نجيب الريحانى، الذى كلفه تأليف» مقطوعات استعراضية «بين الفصول ونجحت، استخدمه الريحانى فى تلحين مسرحياته، ومنها مسرحية «كله من ده» كانت أولى المسرحيات وأول شهرته. بعد موت الشيخ سلامة حجازى خلفه درويش فى زعامة المسرح الغنائى، وبدأ عصر الموسيقى العربية المعاصرة.

انتقل سيد درويش للقاهرة واقام بحى باب الخلق، ثم انتقل إلى حى شبرا- جزيرة بدران مع صديقه ورفيق مسيرته بديع خيرى، وبينهما دائما مداعبات أشهر جملة قالها درويش لصديقه بديع: «أنا أقدر ألحن الجورنال». 

وذات مرة سمع بديع بائع الجرار (القلل) يغنى وهو يبيع القلل استلهم منه الفكرة وكتب طقطوقة «مليحة قوى القلل القناوي» وقرر الاثنان أن يكون إنتاجهما مستوحى من حياة هؤلاء الشعب وعنهم فهم المؤلفون الحقيقيون لذا فهو أول من ترجم الأحاسيس الشعبية إلى ألحان.

الفقر حافز الإبداع

عاش عمره بالطول والعرض واكتسب أموالا طائلة كان ينفقها بسرعة، وعانى الفقر والجوع من هذا التبذير، ولكن فقره كان «لذيذ» على حد قول رفيقه بديع حكى عن ليلة كان الاثنان لا يملكان إلا 8 قروش. ومن شدة هذا الفقر قررا العمل بهذه الليلة، قام بديع بالتأليف والكتابة ودرويش بالتلحين، وأنتجا 12 لحنا، وذهبا إلى صاحب شركة الأسطوانات «مسيو ميشيغان» وطلبت الشركة شراء ثمانية منهم بقيمة عشرة جنيهات، إلا أن سيد رفض السعر وأمسك بالنوتة الموسيقية ومزقها وقال: «احنا مش بنبيع ترمس اللحن بجنيه وربع». رفع السعر ليس طمعا بل احتراما لكرامة فنه، ومع ذلك رحل درويش ولم يترك سوى «الحاجة» أى عصاه، والعود، ورزمة من الأوراق التى دون عليها أغنياته.

الأغنية الوطنية

صنف د.فكتور سحاب أغنياته الوطنية للعديد من التصنيفات منها: أغانى الأناشيد ذات الإيقاع العسكرى والكلام الوطنى المباشر مثل «قوم يا مصرى» ظهرت بعد ثورة 1919 من مسرحية «قولوا له»، نشيد «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى» كانت إحدى كلمات الزعيم مصطفى كامل وطلب سيد درويش وضعها فى كلماته ولحنها. فأصبحت فيما بعد النشيد الوطنى، «أنا المصرى كريم العنصرين» من مسرحية «شهرزاد»، و«مصرنا وطننا سعدنا أملنا «1923 كتبها ولحنها لاستقبال سعد زغلول العائد من المنفى، وغنيت بعد وفاة درويش.. ومجموعة أغنيات اجتماعية لاصحاب المهن واحتشدت بالحس الوطنى مثل (خسارة قرشك وحياة ولادك على اللى ماهوش من طين بلادك، شد الحزام على وسطك، هز الهلال ياسيد، سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة، الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية، يهون الله يعوض الله، طلعت ياما احلى نورها» وغيرها. 

وأغنيات وطنية لها ملابسات رافقت ظهورها مثل «يا بلح زغلول» تبدو أنها ضمن أغنيات الباعة بينما قصتها أن الحكم البريطانى حظر على المصريين ذكر اسم زعيمهم المنفى سعد زغلول إلا أن الأغنية انتشرت وبقوة.

المسرح الغنائى

إنتاجه الموسيقى والغنائى فى سنواته السبع قبل وفاته فقط، قدم 17 موشحا، 10 أدوار، 66 طقطوقة قدمها من خلال القصيدة، الموال، المونولوج، المعزوفة، أشهرها طقطوقة «زورونى كل سنة مرة» 

لحن 233 أغنية مسرحية على الأقل، قدمها فى ثلاثين تمثيلية غنائية واستعراضا وأوبرا وتعاون مع الفرق المسرحية فرقة جورج أبيض، نجيب الريحانى، على الكسار، منيرة المهدية، أبناء عكاشة، وهو أول من وضع افتتاحية موسيقية تعزف قبل رفع الستارة بالأوبرا المصرية وبمسرحياته.

وأسس مع الممثل عمر وصفى فرقته فرقة سيد درويش، قدم ألحانا مسرحية (شهوزاد- اسم المسرحية بالواو وليس بالراء) إشارة إلى شهوات الأسرة الحاكمة إلا أن الرقابة عدلتها إلى (شهرزاد)، والمسرحية الثانية «الباروكة»، وأعاد تقديم العشرة الطيبة التى كان قد قدمها الريحانى لتصبح ثلاث مسرحيات هما ذروة مسرحه الغنائى، كما عثر على مسرحيتين لم يسجلهما المؤرخون وهما «خد بالك يا أستاذ»، و«العبرة.

خلع الجبة والقفطان 

ويرى سحاب انّ تراث سيّد درويش كان امتدادًا للموسيقى العربية فى مصر فى القرن التاسع عشر من أدوار وموشحات وطقاطيق وجماليّة الطرب هى الجماليّة الوحيدة التى تسوقها الأغنية إلى آذان المستمعين ووجدانهم.. هو مجددا فى مضمون الأغنية العربية لا فى شكلها ذلك انه اضاف الى الموسيقى العربية من باب الغناء المسرحى فنون التعبير وفلسفته بعدما كانت الموسيقى والغناء العربيين يقومان على فلسفة الطرب. 

لكن درويش لم يكن يحتقر الطرب والتطريب مثلما نسب إليه من بعض النقاد، وقال ذات يوم ردا على سؤال «لماذا تركت التخت واعتمدت على الفرقة الموسيقية أجاب: «مثلما خلعت الجبة والقفطان ولبست البدلة»، وذلك فى إشارة للتغير. كان متمسكا بالنغم العربى الاصيل فى مجالسة الخاصة يغنى الأدوار المطربة ولا سيما دور «ضيعت مستقبل حياتى». وحين كان بعض الحضور يطلبون منه غناء أغنياته المسرحية يطلب منهم أن يذهبوا للمسرح لسماعها لأن لها طابعا تمثيليا وتعبيريا. 

بيتهوفن ودرويش 

د.فكتور سحاب: «أساليب ابتدعها فى الموسيقى العربية وكانت بداية عصر صارت فية غاية التعبير والتمثيل والتصوير حاجة ضرورة فى الموسيقى لم تكن من قبل. تمام مثلما كانت الموسيقى الكلاسيكية قبل بتهوفن مجردة صارت بعده تعبيرية. كلاهما درويش وبيتهوفن اضافوا التعبيرية اضافة اساسية هذا من حيث المضمون. اما من حيث الشكل فدرويش التزم التقليد وظل تقليديا ولا بد من تصحيح ما يشاع عنه فهو احدث ثورة فى المضمون فقط لكنه ظل تقليديا محافظا ولم يضف شيئا فى شكل الأنواع الثلاثة الاساسية الطقطوقة والدور والموشح». 

المايسترو سليم سحاب: «أنه عامل البناء الذى استوعب الموسيقى يحسب له انه خلص الموسيقى العربية نهائيا من اللكنة الموسيقية التركية، مهمة صعبة استطاع بمفرده انجازها، وتجديدات درويش فى التصوير الموسيقى، الجدلية الموسيقية، فن المونولوج، الحوار الغنائى، التعبير فى التصوير الموسيقى، وغيرها.

محمد عبدالوهاب: «أنا درويشى حتى العظام» هو احد المتآثرين بفن سيد درويش تأثر خلاق وليس تأثر التقليد، والموسيقار رياض السنباطى قال عنه: «سيد درويش جدد ونحن من بعده لم نضف شيئا».

ثورة يوليو 1952 رفعت الحصار عن فن سيد درويش وكرمته وأحيت تراثه ونظمت تدوين موسيقاه.