الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عزيزتى ليلى وبشر

طرح جديد للقضية الفلسطينية فى تجارب مسرحية

اختتمت فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان «دريم سيتي» بمدينة تونس والتى أقيمت على مدار أسبوعين كاملين داخل أسوار المدينة العتيقة فى رحلة ومغامرة لاكتشاف المواقع الأثرية بتلك المدينة البديعة التى يرجع عهدها إلى الدولة العثمانية تضمن المهرجان مجموعة متنوعة من العروض الفنية التى انسجمت فى تجانس وتدفق على مدارا أيامه بين مسرح، رقص معاصر، سينما، وفن تشكيلى وأشكال وألوان من الفنون فى الموسيقى والرسم والتصوير.



لم يكن يعلم صناع «دريم سيتي» أن أجواء القضية الفلسطينية ستعود لتستحوذ على الرأى العام العالمى من جديد، حيث سبق المهرجان وبادر بإحياء القضية فى عرضيه «عزيزتى ليلى» و«بشر» بطولة جليلة بكار وإخراج آسيا الجعايبى تناولا العرضين القضية بشيء من التنوع والاختلاف اشتركا فى التناول الإنسانى العذب البديع الذى يلامس الروح والعقل معا، اختلافا الاثنان فى طريقة العرض والتناول وأسلوب الطرح الجماهيرى حول نفس القضية بينما تطرق كلاهما لنفس الألم على طريقته الخاصة.

«عزيزتى ليلى»

أسلوب جديد فى التناول والطرح لعمل فنى اعتمد على المعايشة الخالصة والتجربة الذاتية التى شهدها جمهور المهرجان خلال مواكبة فعالياته، «عزيزتى ليلى» عمل لا يشبه الأعمال المسرحية التقليدية فى شكلها المعتاد سواء فى هيئتها الشكلية أو طريقة معايشة الجمهور وإطلاعه على العمل الفنى هو تجربة حياتية أكثر منه عملا فنيا، تفاعل حى مع الأحداث التى يتم روايتها على لسان بطل القصة، «عزيزتى ليلى» لباسل زارا أقرب للمسرح الإذاعى مزج صاحبه بين الواقع والخيال فى لحظة واحدة، بالإطلاع الفردى والذاتى ومعايشة التجربة كاملة مع فتح خيال المستمع لتصور الأحداث التى وقعت فى ذلك المكان، وكأنه اعتبر كل فرد مقدم على دخول الغرفة هو نفسه «ليلى»، يعيش كل فرد تجربة «ليلى» فى استماعها لقصة أبيها واتباعها تعاليم البطاقات المرصوصة على المكتب حيث قرر والدها أن يروى لها قصة مخيم اللاجئين الفلسطينيين باليرموك فى دمشق من خلالها لأنه لا يستطيع اصطحابها إلى هناك، بنى نموذج متخيل لشكل البيت أو المخيم الذى عاش فيه مع عائلة كاملة قبل الهجرة وترك المكان، اعتمد العمل الفنى بشكل بديع على إرشاد جمهور العرض بتتبع خطوات محددة لمعايشة الذكريات والإطلاع على القصة كاملة فى غرفة صغيرة أغلقتها ستارة يدخلها كل شخص منفردا يجلس على كرسيه وأمامه مكتب صغير وضع عليه «الماكيت» أو النموذج الشكلى لهيئة المنزل بالمخيم، كما وضع على المكتب مجموعة من البطاقات الصغيرة مهمتها إرشاد الجالس على الخطوات القادمة، يبدأ بفتح صندوق صغير فيه خطاب من والد ليلى لابنته وبعض الأشياء الخاصة، ثم تطلب البطاقة الثانية من الجالس أن يفتح الدرج على الجانب الأيمن ليستمع إلى تسجيل صوتى من والد ليلى لابنته وهو يحكى لها عن طفولته وحياته بمخيم اليرموك بدمشق وكيف كانت تسير أمور العائلة خلال تلك الفترة ثم يطلب من «ليلى» أو المستمع أن يفتح درجا بالمنتصف يخرج منه «ألبوم» صور العائلة فى زمن مضى ويطلب منها تصفحه ثم البطاقة التالية..يجد علبة ملح كانت تستخدمه جدتها فى طرد الأرواح الشريرة والطاقات السلبية من المكان ويطلب منها أن تضع بعضا من هذا الملح فى علبة «الكبريت» الفارغة الصغيرة حتى تستخدم الجزء الباقى من تراث جدتها، تجربة إنسانية بديعة يعيشها كل فرد من أفراد الجمهور بمفرده داخل هذه الغرفة الصغيرة المسكونة بالحميمية والذكريات، اتبع باسل فى أسلوب حكيه لواقع القضية منهج فنى مغاير لسرد رحلة إنسانية تحفظ ذاكرة وطن وعائلة تم تهجيرها حتى التصق كل فرد من الجمهور بحكاية «ليلي» وأصبحت جزءا من تجربته الشخصية.

«بشر»

اشترك معه فى نفس حالة الخروج عن التقاليد المسرحية وإحياء قيم إيقاظ الذاكرة والهوية الوطنية العرض المسرحى «بشر»، وهو مونودراما جمعت بين الحكى والغناء والتمثيل للفنانة التونسية جليلة بكار إخراج آسيا الجعايبي.. تناولت جليلة بكار فى معالجتها الدرامية للعمل الفنى الجزء الإنسانى الحيوى فى قيمة الذاكرة والوطن عن امرأة بسيطة تدعى نبيهه أحبت أحد اللاجئين الفلسطينين بتونس، تعرض لجروح فى جسده ودخل للعلاج بأحد الكنائس التى تم تحويلها إلى دار رعاية طبية لعلاج الجرحى والمصابين علمت هذه المرأة أنها ستصاب بمرض الزهايمر، حزنت حزنا شديدا ليس فقط بسبب إصابتها بالمرض فى حد ذاته بقدر حزنها وخوفها من أن تنسى ذكريات المكان والحب الذى جمعها بهذا الرجل، تعلقها بهذه الذكرى والمكان الذى جمعهما للمرة الأولى كان أقوى من استسلامها للنسيان ذهبت أمام الكنيسة وبدأت تروى وتتذكر أحداث لقائهما حتى يوم فراقها له، جمع هذا العمل فى مزج استثنائى عذب بين الحكى والتمثيل وكذلك روعة اختيار المكان بكنيسة القلب المقدس بحى باب الخضراء اصطف الجمهور يمينا ويسارا وانتصفت جليلة بكار الجماهير، تسير فى هذا الممر الواقع بينها وبين الحضور وتدور بالحكى والتمثيل وكأنها فى رحلة عبور بين المكان والزمن من قضية خاصة لإنسانة شديدة التواضع والبساطة إلى قضية كبرى تحيى به ذاكرة وطن برواية قصة حب وذكريات رجل تشتت أبنائه فى البلاد أراد أن يجمع شملهم لكن لم يسعفه الوقت، أعادت بكار بعذوبة ونسج شديد الإنسانية والواقعية للأذهان إحياء لمحة من لمحات القضية الفلسطينية فى قلوب الحاضرين مرة بالحكى وأخرى بالتقمص والتشخيص بخفة وذكاء وتمكن واقتدار مع كل ما احتواه العرض المسرحى من عناصر بصرية وسمعية سواء باستغلال سينوغرافيا المكان القديم الذى أوحى بدار رعاية عفا عليها الزمن والإضاءة الدافئة الخافتة التى احتضنت ذكريات الحب والوطن مع أشعار محمود درويش «يوميات الحزن العادي» وتكرار أغنية عبد الحليم حافظ «أهواك وأتمنى لو أنساك»! 

عيشوشة

من بين الأعمال المميزة ضمن فعاليات المهرجان عرض الرقص المعاصر لأحد رواده «آن تريزا» التى قدمت بمفردها على مدار ساعتين رقصات متفرقة استعرضت خلالها مهاراتها الجسدية وتمكنها الكبير من المواصلة والاستمرار فى تكرار الحركة واللعب مع الجمهور فى المكان الأثرى «زاوية سيدى على شيحة» على أنغام البيانو، كما قدم بالمدرسة الصادقية بالقصبة العمل الموسيقى الفريد من نوعه «عيشوشة» لخليل حانتاتي، اعتمد هذا العرض والاستعراض الموسيقى على مزج جديد ومبتكر بين أنماط مختلفة ومتنوعة من أشكال الموسيقى التقليدية التونسية الخاصة بأحياء وبلدان مختلفة، لكل مدينة خلفية ثقافية وتاريخية تميزها بطابع موسيقى معين، قام خليل بجمع هذا التراث التونسى الموسيقى الكبير من عدة مدن متفرقة من الجبال والأحياء الشعبية ومزج بين هذه الأشكال المتنوعة والعزف الحى للموسيقى الإلكترونية، مشروع جديد وفريد من نوعه فى طريقة التناول الفنى والعرض الجماهيرى حيث صممت شاشات كبرى فى ساحة المدرسة الصادقية وتم عرض هذه الأشكال الموسيقية وخلفيتها الشعبية والبيئة التى جاءت منها على تلك الشاشات مع عزف موسيقى مسجل بجانب عزف خليل الحيى لموسيقاه الإلكترونية عن هذا المشروع وآلية تنفيذه قال خليل فى تصريحات خاصة:

بدأت منذ عامين فى عمل خلط بين الموسيقى التقليدية مع الموسيقى الحديثة والإلكترونية، استغرقت المسألة وقت طويل لأننى كنت أذهب بنفسى للتصوير بالصحراء والجبال وهذه الأماكن الشعبية والتقليدية بتونس حتى أخرج بالشكل الأصلى والمرجعية التاريخية التى تميز موسيقى كل مدينة من هذه المدن، سرت فى جولات متعددة كل مدينة فى تونس لها تقاليد فى الرقص والموسيقى فهناك أنواع متوارثة من أصول إفريقية مثلا «المالوف» بتونس اصله أندلسى وتركي، وكذلك الجنوب بالجبل له طابع خاص كل مكان له نوع موسيقى مختلف، أما المزج مع الشاشة بنفس توقيت العزف تقنية لم تكن موجودة من قبل، ليس هناك مرجع كبير فى أوروبا بينما لعبت بتكنيك جديد حتى أقوم بمزج العزف الحيى مع الصوت الخارج من الشاشة.

وعن اسم عيشوشة..هذا اسم جدتى لأمى كان اسمها عائشة وأناديها «عيشوشة» هى أول سيدة ساعدتنى على تسجيل الأشياء، كنت أسجل كل القصص والحكايات التى ترويها لى فى الصغر، بعد أن رحلت وجدت أننى أحتفظ بتسجيلات كثيرة لها، لذلك أحببت إطلاق اسمها على هذا المشروع المبتكر.