الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الاحتفاء المتأخر بعد رحيله بـ 50 عاما

سعيـد العـدوى فنـان لا يعوض

الفنان السكندرى سعيد العدوى (1938-1973) فنان استثنائى صاحب تجربة فنية مميزة ظلت غائبة عن سياقها التاريخى ضمن رواد الفن المصرى المعاصر، ومجهولة عند بعض دارسى الفن، عشر سنوات فقط هى فترة إبداعاته مارس فن التصوير والرسم والحفر والنحت، اختطفه الموت مبكرا بعمر 35 عاما.



منهج سعيد العدوى الفكرى بطرحه الدائم للسؤال الاهم فى التجربة الفنية وهو لماذا نرسم، ولمن نرسم؟ ذهب بأعماله لمرحلة فنية وفلسفية لم يبلغها فنان آخر، وذلك بخلق معالجات وصياغات تشكيلية غير مسبوقة ومغايرة لما هو معتاد فى تلك الفترة الزمنية بل وإلى الآن. واتخذ اتجاها فنيا نحو التجريب مستندا على العديد من المرجعيات منها التراثية الشعبية والبدائية ولذا وصفه الناقد إسماعيل عبدالله: «العدوى الرسام المناضل الذى حرث أرض التجريب بقوة البدائيين».

  كما استفاد من فنون الأطفال حيث الحرية المطلقة فى بناء الصورة الفنية والقى بقوانين المنظور بعيدا، وذكر العدوى بحوار سابق له  أنه يرسم ما يعرفه وليس ما يراه تماما كالأطفال، وأنه حينما يرى امرأة حاملا لا يرسم بطنا منتفخا ولكن يرسم الطفل، كما أنه يرسم الأحجام الكبيرة فى المقدمة مبالغا فيها والأحجام الصغيرة فى الخلفية حسب أهميتها بالنسبة للموضوع . بالسنوات الثلاث الأخيرة توحد فنيا وفكريا مع الرمزية، وتمكن من تلاشى الحدود الزمنية الفاصلة بين العناصر فأحدث تنوعا وثراء بفضاء أعماله . بحديثه عن عالمه ذكر انه تأثر بالكثيرين ولكنه اجتهد ليكون مؤثرا، فأصبح فنانا ملهما للمبدعين الصادقين ومرجعا للمقلدين.

من آراء العدوى فى الفن، أن الرسم فن مستقل قائم بذاته وليس مجرد وسيلة للتصوير، وانه اختار خامة الحبر الصينى لأنها بعيدة عن التكنيك المعقد وان المهم فى الصورة هو الرؤية الفنية وليس التكنيك. الموضوع بالنسبة له هو مبرر للرسم وينصح الفنانين بضرورة التجول بالاماكن لأنها رحلة صيد يجنى منها الفنان حصيلة غنية من المفردات والعناصر.

تخوفات على تراث العدوى

 يبدو من المقالات التى كتبها النقاد بعد رحيله وجود تخوفات على تراثه الفنى وعلى اهدار قيمته وقدره، فكتب الفنان والناقد أحمد فؤاد سليم تحت عنوان «فنان لا يعوض»: «نحن نريد لسعيد العدوى أن يعيش، ونريد للوحاته أن تحيا وأن تتنفس، أن تتفاعل مع الأجيال القادمة، ومن العار أن يموت العدوى دون أن يذكره أحد، ولا يجوز لنا أن نعلن سقوط العدوى لأنه مات، كما اوصى بمقاله ان على الإسكندرية أن تفى بديونها إلى واحد من بين أفضل المخلصين لها، وعلى مصر أن تضمه فى أحضانها. وكتب د.نعبم عطية يحذر من ضياع الاعمال:  «بعد رحيله ما مصير هذه الاعمال، هل تستطيع  اسرة الفنان ووبعض اصدقائه ان تنقذ هذه الاعمال بشكل حاسم من الضياع، ونهيب بالدولة إنقاذ أعماله».

ما قبل الإصدار

فعاليتان للاحتفاء كلتاهما مكملة للأخرى، الأولى: أقيمت بمكتبة القاهرة بالزمالك ندوة فنية وثقافية تحت عنوان «ما قبل الإصدار» بتنظيم مؤسسة «أراك» للفنون والثقافة، وذلك لإصدار أول موسوعة عن الفنان سعيد العدوى وأعماله، متحدثو الندوة بالمنصة الدكتور حسام رشوان الخبير الفنى والباحث فى شئون الحركة الفنية المصرية الحديثة، والفنانة والناقدة دكتور أمل نصر أستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة بالاسكندرية، وأدار الندوة الفنان دكتور أشرف رضا أستاذ الفنون الجميلة والرئيس التنفيذى لمجمع الفنون والثقافة بجامعة حلوان تحدث عن أن الكتاب التوثيقى يجرى إعدادها منذ أكثر من عام، وهو الأولى من نوعه فلم يصدر أى كتب توثيقية عن سعيد العدوى من قبل، ولا بد من إعطائه حقه بالتوثيق وذلك لدوره ووجوده فى الحركة التشكيلية المصرية.

قدمت الفنانة والناقدة أمل نصر دراسة تحليلية دقيقة لأعمال العدوى عنوانها «ليسقط كل شىء لا أحبه» الدراسة مصحوبة بعرض أعمال الفنان بحسب ترتبيها الزمنى تناولت مرجعيات الفنان الفلسفية والمؤثرات الثقافية والتراكمية التى استقى منها مفرداته وأبجديات عالمه، واوضحت احد اذرع التجريد بأعماله منها الاستناد على الفنون البدائية . وكشفت بالمقاربات والتشابهات تاثره بالفن المصرى القديم كجزء من ذاكراته البصرية، ومن عالم فنون الأطفال، وخلق حروفيه ذاتية خاصه به، وتأثره بعالم بيكاسو فى فترة من حياته، وغيرها من المسارات الثقافية الأخرى. 

وعن الكتالوج التوثيقى تحدث «رشوان» تعرقل الاصدار بسبب فترة الكورونا وكنا بدأنا فيه 2017 إلإ ان العمل استكمل وسوف يصدر ابريل 2024، وهو مكون من جزءين، الجزء الأول هو دراسات نقدية كتبها خصيصا فنانين ونقاد كبار من بينهم: أمل نصر، ريم حسن، حمدى عبد الله، أحمد مصطفى، شاكر عبد الحميد، مصطفى عيسى، نيفين الرفاعي. وآخرون . والجزء الثانى سيضم دراسات سابقة النشر، من بينها: محمود عبد الله، أحمد فؤاد سليم، حسين بيكار، رضا عبد السلام، أحمد نوار، فاطمة العرارجى، نعيم عطية هبة الهواوى، وليد قانوش، عزة أبو السعود، ماجدة سعد الدين، حمدى أبو المعاطي، وعز الدين نجيب... وآخرون.

غياب مفاجئ وحضور دائم

والفعالية الثانية معرض لأعمال سعيد العدوى بعنوان «غياب مفاجئ وحضور دائم» والمقام بمجمع الفنون بقصر عائشة فهمى الزمالك ومستمر إلى 16 نوفمبر. افتتح تحت رعاية د. نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية برئاسة د.وليد قانوش حيث تحدث عن العدوى: «إن تجربة سعيد العدوى وما وصل إلينا من أعماله يحتاج لكثير من التحليل لبيان ما قد تمثله تلك الرموز، إلا أن المشاهدة المتعجلة، لا يمكن أن تخطئ طبيعة ذلك القلب القلق المتفائل، والمهموم فى الوقت ذاته، بوطن ينتمى إليه حتى آخر نفس، قلب امتلأ بروح وطنه التراثية بشكل عام والشعبية منها على وجه الخصوص، وخلال رحلته القصيرة فى الحياة استطاع ترك أعمال أثرت فى أجيال لاحقه ممتدة حتى يومنا هذا».

المعرض يضم 182 عملا يعرض لأول مرة ما بين الرسم والتصوير والحفر منها منفذة بالحبر الصينى ومنها بالالوان، واسكتشات وأوراق مذكراته الاعمال من مقتنيات المتاحف المصرية بالقاهرة والاسكندرية ومنها مقتنيات أفراد.

وصول العدوى الزمالك 

ها هو العدوى وصل لقصر عائشة فهمى بعد 50 عاما من رحيله ربما يكون احتفاء متأخرا مقارنة برواد الفن المصرى لكن ثقتنا فى أن التاريخ لا يتجاهل المبدعين الصادقين وينصفهم لو بعد حين بأن يبعث لهم مخلصين يعيدون لهم ولو جزءا من قدرهم.

راعى منسق العرض الفنان دكتور على سعيد مدير عام مراكز الفنون ان يجد زائر العرض ما يجعله يتحاور بصريا مع لوحات العدوى وبالاخص الاعمال الصغيرة الحجم مقارنة بارتقاع سقف القصر، فقام احد الفنانين الشباب الموهوبين بتكبير ورسم اجزاء من لوحة العدوى الصغيرة اعلى اللوحة المعلقة بالقصر، مستخدما درجة لونية ضبابية وكأنها ظل وخيال إلإ أن هذا الطيف القادم من عالم العدوى يعيد المتلقى لتأمل العمل الأصلى.

وبالتاكيد لهذا التميز والتفرد بالعرض سبب كشفه لنا دكتور على سعيد: «أنا كان لدى حلم أن أعمل عرضا كبيرا يليق بالعظيم» سعيد العدوى «لأكتر من سبب، عيشة عالم سعيد العدوى مع أوائل أيام الدراسة فى ١٩٩٨ من خلال كلام أساتذتنا من أصدقائه ومعاصريه بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وأيقنت من البداية إنه إنسان وفنان فوق العادة. وهو مؤسس لمدرسة غاية فى التفرد فى تاريخ الفن المصرى الحديث. ومع أول يوم عمل بعد التخرج فى ٢٠٠٣ كنت أمين متحف بمركز محمود سعيد بالإسكندرية، وقعت فى حب لوحته» المنجل «والتى اخترتها لبوستر العرض».

فيلم ومطوية

واستكمالا لحالة التفاعلية الحوارية فيما يخص التنسيق وجود شاشة مبكرة تعرض اعماله بالتتابع متواجدة اثناء الصعود لدور الثانى بالقصر، كما عرض بإحدى غرف القصر فيلم فيديو قصير على درجة عالية من الإتقان والدقة، الفيلم يسرد سيرة ومسيرة العدوى تحدثت فيه أرملته السيدة وجيهة فاضل، ود.عزة أبو السعود، ورفيق مسيرته الفنان د.مصطفى عبدالمعطى، وآخرون. 

وبأحد أركان العرض علقت صورته االشخصية بحجم كبير مرفقة بحديثه عن عالمه، ونفس حديثه متواجد بمطوية المعرض وهذا الاختيار مدروس وداعم للعرض وأسهم بشكل كبير فى استيعاب وقراءة أعماله من قبل الزائرين.. وببعض أركان العرض تجد مذكرات سعيد العدوى الاصلية المكتوبة بخط اليد التى أظهرت مدى معاناته كفنان صادق.

عالم العدوى

وبعضا مما قاله العدوى عن عالمه: «إننى أسعى لبناء الصورة بقوانين بناء السجادة الشرقية، الرسم عمل فنى متكامل يحمل كل إمكانات العمل الفنى وليس مسودة لعمل آخر، الخط العربى هو أصدق دليل لمزاجنا وذوقنا وأبعاد حضارتنا العربية، إن أى حرف من حروفه هو تلخيص لمنهج فكرنا. إن عناصرى تفوح منها رائحة الماضي. الأشياء القديمة، العربات الكارو، رسوم الأطفال، السجاد الشرقى القديم، نحت الحضارات الشرقية، عالم الموشحات، صلاة الجمعة، عربات الحنطور، العمارة البدائية، حلقات الذكر والحواة والمشعوذين، وشجاعة بيكاسو أعمال فللينى وفسكونتى وبازوليني، الأقصر، الأضرحة، تجمعات الموالد والأسواق والأعياد والشواطئ الشعبية، المنتجات اليدوية بكرداسة وأخميم، الواحات سجاد الحرانية، الخط العربى بأساليب المتنوعة، الإيقاع المتفرد لتلاوة القرآن الكريم، الغناء الشعبى، سمات الذوق (البلدي) فى الحديث والتعامل اليومى والشجار، حى العطارين، الحشرات والنباتات، الحياة الأولى تحت المجهر، رسوم ما قبل التاريخ المخطوطات الاسلامية والقبطية، الريف، الفن اليابانى والصينى الإيرانى.. ومسارات ثقافية أخرى ذكرها.

بخط اليد

ومن مذكراته الشخصية المعروضة كتب العدوى: أشعر بصراع دائم عند اكتشاف عمل جديد  قوى حتى يتفاعل معه الناس ويعيش فى كيانهم طول العمر، ولكن متى أصل الى ذلك.. الله أعلم.

- إن الفنان المخلص يتألم فى اليوم يوما كاملا ويفرح فى اليوم ساعات متقطعة والفنان المخلص هو دائم القلق متوتر الأعصاب والفكر لن يهدأ إطلاقا. 

- لا بد وأن تكون لى فائدة محسوسة للناس جميعا ولا بد أن أكون شيئا هاما حتى اعمل شيئا مهما للناس. وإذا سوف أكون القائد لشعبى فماذا أريد أن افعل بالفن للناس..  لست أعرف.

- عندما أقارن حياتى بحياة أولئك العباقرة من الناس أحس بتمزق فى تفكيرى إذا إننا أحاول أن أكون كيانا لخدمة أسرتى التى ارتبط بها بحكم الطبيعية ثم خدمة الناس عامة إذ إنني أعتقد أن مهنتى هى الفن هى قيادة البشر نحو فهم الحياة جيدا للعيش فيها فى سلام ووداعة واطمئنان.