الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
روشتة الصبر الجميل لـ«روزاليوسف»

روشتة الصبر الجميل لـ«روزاليوسف»

الخصومة كالصداقة تخلف أثرًا عميقًا فى النفوس، والخصوم كالأصدقاء معالم قائمة لا تزول من حياتنا إلا بزوال الحياة، وكلاهما جدير بالرعاية جدير بالذكر، إذ لولا الخصوم لخلت الحياة من النضال، والحياة تصبح فى نظرى حلمًا مملًا يجرى على وتيرة واحدة، إذ خلت من الأخذ والرد من المغالبة والمناضلة والقاذف بالحصى والطوب بل وبالحديد!



هكذا تعترف «روزاليوسف» وتحكى هذه الحكاية المهمة:

الحديد كان عنوان ذلك العهد الذى حكم فيه «محمد محمود باشا» متخذًا صلابة الحديد فى قلبه وكف الحديد فى يده! وكان يلقب بصاحب اليد الحديدية وشاع هذ اللقب حتى كاد يطغى أحيانًا على الاسم وصاحبه!

هذا اللقب من وضع هذه المجلة، استلهمته من خطبة ألقاها «محمد محمود باشا» ذكر فيها أنه سينازل خصومة بيد من حديد، فكان أن أجرت ريشة الرسام صاروخان صورة كاريكاتيرية لرفعته وقد لبست يده كف الحديد!

وتكررت الصور فى هذا المعنى وتعددت أوضاعها وقد لبستها روح الفكاهة حتى غدا لليد الحديدية شأنها وذاع لها صيت ولا ندرى ماذا كان لهذه الشهرة من أثر فى نفس الباشا، وقد كان فى ذلك الوقت موفور الحيوية ولا نقول موفور الصحة، لأن الخصومة قديمة بين الباشا ومعدته القليلة وكانت هذه تنزل برفعته نوبات اشمئناط عنيفة، وكانت هذه المجلة تتلقى دائمًا كرامات اشمئناطه بجلد وصبر وتفكه!

وتمضى «روزاليوسف» قائلة: بهذا التفكه استطعت أن أطلى مصائبى ليسهل علىّ ابتلاعها، أما الصبر فكنت أتناول حباته بلا انقطاع حتى ضاقت معدتى به!

وفى أحد الأيام أفلس الصبر معى أمام ما كنت ألقاه من اضطهاد الوزارة وكنت أعلم أن رفعة «على ماهر باشا» وهو وزير الحقانية فى ذلك العهد، رجل له رأى خاص فى الوزارة وأنه أصبح خميرة العكننة التى تطلع على الوزارة فى كل يوم بصداع جديد لا سيما بعد أن تحرجت الحال بين السراى والوزارة بفعل تصرفات اللورد «جورج لويد» المندورب السامى البريطانى.

وكان يملأ سمعى أن «على ماهر باشا» رجل حق يعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر فسعيت إليه بعد استئذان وكانت أول مرة أقابله فيها وأعرفه عن قرب! وأول ما يطالع الفاحص المدقق فى «ماهر باشا» رقة ودماثة وميل إلى الصمت والإصغاء.

جلست أمامه بعد أن أحسن استقبالى أنا الخصم اللدود للوزارة التى هو هضو من أهم أعضائها ثم أخذت أسرد له أنواع الاضطهاد التى القاها كل يوم من الوزارة، وأعّدد له المحن التى مررت بها منذ قيام الوزارة بأعباء الحكم!

أصغى رفعته إلى كلامى أحسن اصغاء والنظرة الحادة فى عينيه تحصى علىّ كل حركة أبديها والبسمة فى وجهى تغرينى باستزادة فى الكلام فشعرت أني فى حضرة رجل يريد أن يعرف كل شىء ولا يقول شيئًا.

وأخيرًا انفرجت شفتاه بعد اختفاء الابتسامة التى كانت تلعب على شفتيه محاولة أن تخفف الحدة التى كانت تلمع فى عينيه، انفرجت شفتاه وقال لى: وما عسى أن أفعله لك؟ قلت: معاليك توافق على هذه الحال؟

فأطرق الباشا إطراقة طويلة ثم رفع رأسه ليقول لى: الصبر!

وهنا هممت أن أصبح وأن أقدم إليه بيانًا بروشتات هذا الصبر الجميل الذى ينصحنى بتعاطيه، ولاحظ رفعته ما هجس بخاطرى ونمت عنه تقاطيع وجهى فانطلق يتكلم، وكان أروع ما سمعته منه أن جلالة الملك المغفور له «فؤاد الأول» كان يضع دائمًا فى أحد أدراج مكتبه الكثيرة الاستعمال لوحة مكتوب عليها كلمة «الصبر» وأن جلالته وهو باعث نهضة مصر الأخيرة يتمسك دائمًا بهذا الصبر الذى لم يعجبنى، ولا سيما فى هذه الأيام.

وكما كان «على ماهر» باشا بليغًا رائعًا فى صمته فقد كان كذلك فى كلامه وهو كلام جريء لا يحتمل التأويل فى صوت تغلب عليه النبرة اليقظة الواعية ويشمله الوضوح والإقناع! وللذكريات بقية!