الثلاثاء 23 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
إحسان عبدالقدوس والوحش المخيف!

إحسان عبدالقدوس والوحش المخيف!

لم تكن السيدة «روزاليوسف» وحدها هى التى دفعت فاتورة متاعب ومصاعب وخسائر بسبب اضطهاد حكومة محمد محمود باشا.. لها ولمجلتها، بل عانى أيضًا ابنها الطفل إحسان عبدالقدوس الذى كان عمره وقتها تسع سنوات وفى مقال نادر حكى إحسان بعض ذكرياته فكتب تحت عنوان «كيف عرفت محمد محمود» فيقول:



لم يرن فى أذنى اسم «محمد محمود» إلا فى عهد وزارته الأولى سنة 1929 وكان رنينه جافًا ممقوتًا يحوطه صدى من السخط واللعنة، ففى عهد وزارته هذه ذاقت «روزاليوسف» معنى المصادرة لأول مرة، فى عهده جربت العائلة للمرة الأولى فضيلة الاقتصاد وقيمة القرش الأبيض فى اليوم الأسود الذى كان يظهر مع سواد الحبر الذى يكتب به المحرر فيلدغ بقلمه محمد باشا محمود «فإذا بالمصادرة تقع وإذا بالمحرر ووالدتى وأنا بالتبعية نضطر إلى «الأخشوشان» عملًا بالمثل إياه «اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم»!

وكنت إذ ذاك فى التاسعة من عمرى ولم أكن قد رأيت «محمد محمود» إلا كاريكاتوريًا بريشة مصور المجلة «صاروخان» ولم أكن أعرف عنه إلا إنه حاكم «عات» حرمنى فى صيف أحد الأعوام من التصييف فى الإسكندرية، إذ كانت العائلة تصيف فى ساحات المحاكم ومكاتب النيابة، فلم يكن غريبًا والحالة هذه أن أتصوره دائمًا فى صورة «وحش مخيف له أظفار وأنياب يخطف بها الأطفال ويجرى بهم إلى مغارة سوداء فوق قمة أحد الجبال!

ومرت السنون وبدأت قدماى تنزلق شيئًا فشيئًا إلى ميدان الصحافة، ولكن رغم ذلك فإن صورة «محمد محمود» المنطبقة فى ذهنى لم تتغير وإن كانت قد تحسنت قليلًا عن صورة الوحش خاطف الأطفال!

إلى أن كان يوم فى عهد الوزارة النحاسية الأخيرة وكنت داخلًا فى ساعة الظهيرة إلى حديقة الحيوان أنا وجماعة من الأصدقاء وإذ بى أتقابل وجهًا لوجه مع رفعة «محمد باشا محمود» وكان خارجًا وقتئذ من الحديقة فطرأ على ذهنى توًا أن أسأله عن بعض الأخبار الصحفية ولكنى قبل أن أبدأ بالحديث أخذت أشخص وانظر إلى وجهه بعينين حائرتين باحثًا عن الأنياب التى كنت اتخيلها، ثم إلى يديه باحثًا عن الأظافر ولكننى لم أجد لهما أثرًا، بل رأيت وجهًا كريمًا وعينين يكسوهما «الُنبل» وينبعث منهما ضوء هادئ كله طيبة ودعة وكأنما لاحظ رفعته طول شخوصى إليه فرفع يده بالتحية قائلاً: بونجور يابهوات!

وأقول الحق إنى بُهت ودوى فى أذنى لقب «بيه» دويًا غريبًا خصوصًا إنه صادر من صاحب الدولة وعجبت لهذه الديمقراطية واختلط علىَّ الأمر فأجبت دون وعيٍ: بونجور يا بيه!

وقبل أن انتهى من رد تحيته كان قد اختفى داخل سيارته وقد أثلجت قلبى ديمقراطيته رغم ما يشاع عنه من أنه متكبر.

ثم حدث أن تولى رفعته رئاسة الوزارة بعد سقوط الوزارة النحاسية وكانت جهودى فى الصحافة لا تزال محدودة ولا تستدعى مقابلة رؤساء الوزراء أو الوزراء، ولذلك مرت شهور على تولى رفعته الحكم دون أن أفكر فى مقابلته، إلى أن كان بدء هذا الصيف حيث أتسع أفق الصحافة أمامى واشتركت فى تحرير الصفحات السياسية- دون أن يكون للمحسوبية فى ذلك شأن- فكان لزامًا علىّ أن أقابل رفعة «محمد محمود باشا» وأن أتصل به ولو من باب العلم بالشىء!

وانتقل رفعة «محمد محمود» إلى فندق «وند سور» وكانت صحته قد ساءت إلى حد كبير، وكنت أتردد على هذا الفندق مترقبًا الفرصة التى أتقدم فيها إلى رفعته ولكن الأيام مرت والفرصة لم تسنح، وأخيرًا وفى مساء أحد الأيام وجدته جالسًا فى بهو الفندق يحيط به نفر من الوزراء والأصدقاء وكنت أرقب من بعيد القوم منتظرًا أن يمر بى أحد الوزراء أو أحد أبناء البيوتات لأطلب منه تقديمى إلى رفعته حتى أتقدم إليه بواسطة جامدة ولكن طال انتظارى لوحدى دون أن يمر بى أحد منهم.

وللذكريات بقية!