الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى الاحتفال بمرور 30 عاما على الرقص المعاصر

«كى لا تتبخر الأرض».. عن النكبة والجدار العازل فلسطين تتصدر المشهد بأجساد الرقص الحديث

بأجساد تخترق الصمت وقلوب الحاضرين.. قدم فريق الرقص المسرحى الحديث مشاهد جماعية وثنائية وأحيانا فردية، أجزاء من أعمال الفريق القديمة والحديثة على خشبة المسرح الكبير، اجتمعت فى «كى لا تتبخر الأرض» الذى يقدمه المخرج والمصمم وليد عونى احتفالا بمرور 30 عاما على إنشاء فريق الرقص الحديث بدار الأوبرا، كان العرض عبارة عن بانوراما فنية لإحياء ذاكرة الفريق، ذاكرة اعتمدت على صناعة منهج ورؤى وفلسفة خاصة بمؤسسه وليد عوني، الذى ينتصر للصورة والمشهدية على حد قوله دائما، فأنت هنا أمام مجموعة من لوحات الفن التشكيلى تحيا بأنامل المصمم والمخرج فى هيئة أجساد متحركة، كأن تلك اللوحات مسها السحر وبثت فيها الروح والدماء لتتجسد فى مجموعات متفرقة معبرة عن معان إنسانية أو إجتماعية مثل «نساء قاسم أمين»، أو القضية الفلسطينية والتى قدم لها عونى سردا بليغا عن النكبة والتهجير والجدار العازل من عروض «أغنية الحيتان»، «لو تكلمت الغيوم» والذى ارتدت فيه الفنانة ريم حجاب مجموعة قصاصات من الصور، وبدأت تروى وتسرد بين أحضان إضاءة خافتة دافئة تلهب حديث الذكريات عن الجدار العازل الذى فصل بينها وبين حبيبها فى عذوبة ورقة.. بين الحكى والغناء أبدعت ريم بهذا المشهد والذى شاركت فيه فريقها يوم الاحتفال.



فى تتابع بديع مزج عونى بين صناعة الصورة وخلق حوار فنى بين التاريخ والسياسة والإنسانية والحرية والأمل بتصميم مشاهد مثل «المومياء» لشادى عبد السلام، صمم بالحركة والصورة والديكور تشكيلات جسدية فى هيئة مومياء داخل مقبرة فرعونية تعبير حركى بين المومياء وإله الموت «أنوبيس» وحراس تلك المقبرة جمع بين السرد التاريخى والسريالى بإبداع كبير ليعبر فيه عن فلسفة شادى عبد السلام فى صناعة الصورة لحفظ وإحياء التاريخ القديم، وكذلك مشهد المزج بين العمارة من «زها حديد» وصور الخراب الذى تشهده الأراضى الفلسطينية من هدم المبانى على رؤوس سكانها، ثم مشاهد من «بين الغسق والفجر»، «حفريات آجاثا»، «شهرزاد»، «خيال المآتة»، «أسرار سمرقند»، «سقوط ايكاروس»، «رائحة الثلج».

لكل فن أسلوبه المتفرد فى التعبير عن ذاته وإبراز قضايا كبرى بأدواته الخاصة، يعد الرقص المعاصر من هذه الفنون التى تمتلك أدوات خاصة فى الغوص بأعماق تلك القضايا وفى إبراز معانيها، تتحدث عروضه بمفردات حركية تتشكل بأجساد راقصيه ليأتى المعنى متمثلا فى حركة وأنفاس هذا الجسد الذى لا ينطق صاحبه بالكلمات بينما يجيد النطق بالإيماءات..»كى لا تتبخر الأرض» لم يكن مجرد عملا فنيا للتأريخ لرحلة فريق الرقص الحديث على مدار سنوات، بينما جاء ليحمل قيم جمالية وفكرية ذات معان وتجليات خرجت من رحم الموسيقى والصورة المسرحية والتتابعات والحركات والإيماءات الفنية الراقصة، تمثلت فى مشهد النكبة الذى حرص المخرج على الإنطلاق به من عرض «اخناتون» مشهد النازحون أو المهجرين من تل العمارنة البلدة التى هاجر إليها «اخناتون» بعد دعوته لعبادة إله واحد «آتون»، تهدمت المدينة واضطر أهلها للجوء أو التهجير من أرضهم، فى مشهد شديد القسوة والبلاغة والتعبير، مجموعة من البشر المهجرين يسيرون منكسى الرءوس يتحركون فى تكتلات جماعية، حركة بطيئة انحنت معها ظهورهم بمشية وئيدة مستسلمة خارت قواهم وهزمهم اليأس، أكرهوا على التخلى وكاد ظلهم يتبخر وراءهم وهم نازحون من أرضهم، مشهد فنى يبعث فى نفسك الروع والآسى، إعتمد على الحركة المترنحة المنهكة تهتز أجسادهم ألما على أنغام موسيقى أسهمت فى معايشة حقيقية وربما كان الجمهور بالفعل فى معايشة حية وتأثر كبير بهذا المشهد الواقعى الذى نطالعه يوميا بنشرات الأخبار.

كما تفنن عونى فى خلق مفردات حركية وصور مسرحية بديعة راقية بالملابس والإضاءة والديكور تنسجم بعمق ودقة وتمتزج بمعنى كل مشهد على حدى فأحيانا ينتصر لمعان عميقة وقيم إنسانية كبرى وأحيانا أخرى ينتصر للرقص فى حد ذاته لتقديم تنويعات من رقصات تراثية مثل الرقصة البدوية أو رقصات استعراضية مثل «ديفيلة» أو رقصة ثنائية لبداية الصراع الإنسانى منذ قابيل وهابيل «بين الغسق والفجر»، وفى ظل هذه البانوراما الفنية الراقصة باستعراض أفكار ومهارات الفريق الجسدية تنوعت المقطوعات الموسيقية التى امتزجت فى تنقلات شديدة الدقة والإحكام بين مشاهد العرض المختلفة ليصنع عونى سيمفونية راقصة يحيى بها ذكريات فريقه بقيادته وكأنه مايسترو صعد على خشبة المسرح ليقود الأوركسترا ويصاحبها الرقص فى آخر لوحات العرض، وليؤكد على دعمه المستمر لأجيال من بعده.. كى لا يتبخر الرقص!   

تأسس فريق الرقص المسرحى الحديث عام 1993،  حضر الحفل وزيرة الثقافة نيفين الكيلانى والدكتور خالد داغر رئيس دار الأوبرا، كما حرص على الحضور الفنان فاروق حسنى الوزير الأسبق الذى شهد ميلاد هذا الفريق وشدد على ضرورة تأسيسه فى عهده، احتفى الجميع فى تلك الليلة الساهرة مع الفريق ومؤسسه المخرج والمصمم وليد عونى الذى احتفى بفريقه من مصممين وراقصين على طريقته الخاصة حيث حرص مع انطلاق الحفل على توجيه كلمة شكر وعرفان لكل تلاميذه ممن تخرجوا من تحت يديه، كرم فى هذا اليوم مجموعة كبيرة من الراقصين والفنانين والمصممين بمجال الرقص الحديث منهم من ظل يعمل بالفريق حتى اليوم وآخرين انطلقوا للعمل خارجه اجتمع الزملاء بتلك الليلة الساهرة ليشهدوا على تاريخ ذكريات الفريق.

قدم الرقص الحديث على مدار تاريخه الفنى عددا من الأعمال المهمة والمتنوعة التى تركت بصمة وأثرا كبيرا فى هذا المجال صنعت تاريخا وأجيالا لفن الرقص المعاصر من هذه العروض «سقوط إيكاروس» 1993، «حفريات تدعة آجاثا» 1994، «الثلاثية المصرية.. الغيبوبة نجيب محفوظ» 1995 -1997، «المقابلة الأخيرة» تحية حليم 1996، «صحراء شادى عبد السلام» 1997، «الأفيال تختبىء لتموت» 1995، «فى البداية كان الرقص» 1997، «أغنية الحيتان» 1998، «حارس الظل» 1999، «شهرزاد كورساكوف» 2000، «أسرار سمرقند» 2001، «سترة النجاة تحت المقعد» 2001، «تحت الأرض» 2002، «محمود مختار ورياح الخماسين» 2003، «كلارا شومان والرمال المتحركة» 2004، «بين الغسق والفجر»2005، «بنات بحري» 2000، «فيروز هل ذرفت عيونك دمعة» 2006، «رائحة الثلج» 2007، «لو تكلمت الغيوم» 2007، و«شهرزاد موناليزا» 2008.