أنـوف حمـراء
أنماط من الكوميديا تجمع مواهب واعدة على مسرح «الهناجر»
هند سلامة
«لقد اخترعنا اللغة لأننا كنا بحاجة إلى التواصل؛ ولكننا اخترعنا الإضحاك لأننا كنا بحاجة للشكوى» ملفن هيلترز.. تشكل الكوميديا المنفذ الكبير للكثير من المبدعين لعرض همومهم وشكواهم فى تغيير سلوك الجمهور وردود أفعاله نحو استيعاب وتقبل أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤلمة. هؤلاء المبدعون أصحاب البصمة الاستثنائية فى صناعة الكوميديا بين جيل الشباب الحالى المخرج محمد الصغير؛ الذى يشكو همومه وأفكار تؤرقه بأعماله المسرحية.. فنان يبحث عن مأوى ومعنى لتقديم إبداع مختلف لا يشبه السائد والمألوف؛ بهذا الفكر والهم يلعب دائما الصغير فى مجال الكوميديا الذى يتبع فيها أشكالا وأنماطا مسرحية متباينة لتشريح ونقد أوضاع اجتماعية وفنية معاصرة؛ بمزيج من البساطة والذكاء قدم عرضه الحالى «أنوف حمراء» على خشبة مسرح مركز الهناجر للفنون.
«أنوف حمراء» نتاج ورشة إعداد الممثل التى كان قد بدأها المخرج ومدير المسرح الفنان شادى سرور بعرض «أشباح الأوبرا» إخراج مروة رضوان؛ ثم «قرب قرب» إخراج شادى سرور واليوم تستكمل الورشة الثانية تخريج دفعة أخرى جديدة بـ «أنوف حمراء»؛ كما قال بل مولدين..» الكوميديا فى واقع الأمر دفع لأذى عن طريق الضحك والابتسام للبؤس ابتسامة عريضة. مجموعة من شباب الممثلين البؤساء يقيمون فى مسرح ليال وأياما آمنين للانتهاء من تدريبات متصلة استعدادا لتحقيق حلمهم بافتتاح العرض؛ لكن القدر يفاجئهم بقرار صاحب المسرح ببيعه لمستثمر وهدمه لبناء مشروع آخر؛ حزن كبير يسيطر على فريق المسرحية وصدمة لا يستطيعون دفعها.
ماذا لو جاءت الأقدار بعكس ما نتمنى؟!..؛ لم ينته العرض نهاية سعيدة متفائلة؛ فلم تتحول الأقدار لصالح الخير أو الفن كما هى العادة فى هذه النوعية من الأعمال؛ بينما تعمد المؤلف أن ينهى العمل بهذه المأساة؛ جاء مشهد النهاية بليغا فى صراع المخرج من وراء ستار مع رجل ضخم وهو يصير صغيرا أو كاد أن يتلاشى أمامه على أنغام «كارمينا بورانا» للملحن كارل أورف وتحديدا فى مقطوعة «فورتونا» ربة الأقدار أو سيدة القدر عند الرومان فهى المتحكمة بالمصائر؛ تناجى المقطوعة الموسيقية ربة الأقدار وتنتقد تحولاته المفاجأة القاسية والمتعسفة أحيانا التى تحرم السعداء وتحول البهجة فى لحظة إلى حزن كبير؛ على أنغام هذه المقطوعة الموسيقية الاستثنائية سواء على مستوى اللحن أو العزف الموسيقى والغناء الأوبرالى أنهى الصغير عرضه المسرحى نهاية بديعة تحمل معانى وأبعادا يؤكد فيها المؤلف أنه غير متفائل من أوضاع فنية حالية؛ أوضاع قد تهدد صناعة ثقافية بأكملها؛ كما يشير ببلاغة وذكاء إلى مدى التراجع فى الاهتمام بفن المسرح بشكل عام وعدم وضعه فى مكانته المستحقة فمن الجائز هدم مسرح لصالح أى شيء آخر!
لم يكتف الصغير بتناول همه بفن المسرح الذى تربى عليه وعشقه؛ بينما تخلل العمل نقدا لاذعا لأوضاع اجتماعية سائدة أثناء إعداد هؤلاء الشباب لبروفات عرضهم الجديد؛ ضمن هذه البروفات وخلال مشاهد مسرحية متفرقة استعرض المخرج مهارات شباب الورشة خاصة مهاراتهم الجسدية بإشراف وتصميم هانى حسن الذى أبدع فى اكتشاف إمكانيات هؤلاء الشباب؛ استطاع حسن أن يصنع من مجرد ممثلين هواة يلعبون هنا من باب التجربة الصغيرة والهواية إلى راقصين محترفين.. فى تشكيلات جماعية وفردية ظهرت مواهب بعضهم بالفعل فى مجال التعبير الحركى والرقص المعاصر وكأنهم أحد فرق الرقص المحترفة؛ ربما كان على رأسهم فى اتقان الحركة بدقة واحتراف كبير باسم إمام ونور شادى ظهرت مهارتهما فى مشاهد العرض المتفرقة نور فى مشهد فردى وحدها على المسرح أبدعت فيه بالتمثيل والتعبير الحركى بعد أن تركها حبيبها؛ وكذلك باسم إمام فى مشاهد متنوعة كانت له بصمة واضحة وبدا ملفتا بأدائه الجسدى.
ربما جاء العرض فقيرا على مستوى الصورة المسرحية فلم يهتم المخرج بصناعة ديكور مبهر أو مبالغا فيه خاصة وهو يعكس حالة مسرحية لفرقة فقيرة حتى إنهم صمموا ملابسهم بأيديهم وهو ما منحهم مستوى آخر من التدريب بالقيام بمهام مختلفة داخل العرض وإتقان معظم عناصره وليس بمجرد المشاركة العابرة كممثلين؛ وبالتالى كان الاختيار المحدود أو البسيط لشكل الملابس والديكور مناسبا للحالة العامة للعرض فى إبراز واقع حقيقى لأجواء صناعة عمل مسرحى لمجموعة من الهواة الفقراء؛ انصب تركيزه بهذه الورشة على الاهتمام بمهارات الممثل فاستطاع أن يضع يده على مواطن الإبداع فيه؛ كل منهم يلعب الكوميديا بأسلوبه وأدائه الخاص؛ لم يشبه أحد منهم الآخر؛ قد لا يصنف بعضهم كوميديانات من الأساس؛ بينما تمكن قائدهم من تحويل وتوجيه هذه الطاقات والضغط على استغلال مناطق الضحك.
اتحد أعضاء الورشة فى أداء جماعى متقن التقسيم مثل الأوركسترا يعزفون معا أنغاما متفرقة وتشكيلات متباينة من الكوميديا؛ ارتدوا ثياب المهرجين أو سار العمل فى مسار مهرجى السيرك؛ يحاكون المهرجون فى أشكالهم المتخفية وراء الأقعنة والأنوف الحمراء وفى أحوالهم الإنسانية ..فالمهرج شخص يسخر من أحزانه بعمق وفلسفة عالية.. أنه المتمكن المحترف فى إشاعة البهجة من شدة الألم؛ على تنوع آلام كل منهم ارتدى الجميع قناع المهرج وانطلقوا من تفصيلة صغيرة؛ صفة محددة تميز كل فرد؛ أو عيب يتناقض مع سلوك عام بالحياة من هذا المنطلق تفجرت الكوميديا الجماعية بينهم؛ شكلت هذه الصفات والتناقضات عنصرا أساسيا فى صناعة الضحك؛ كان منهم محمد السعدنى المخرج المبالغ فى انفعالاته تجاه كل شيء.. على عبد الناصر فى دور.. المكتئب؛ محمد أسامة.. المغترب؛ هانى عاطف.. المتقمص؛ حسن سليمان.. الشاعر؛ باسم إمام.. الراقص؛ على حميدة.. حارس المسرح؛ عبد الرحمن بودا.. المطرب؛ طارق الشرقاوى.. المتأخر؛ هالة محمد.. الموسوسة؛ مارى جرجس.. الساذجة؛ ندى محمد.. الثرثارة؛ نور شادى.. الشقية؛ سارة خزبك.. عاملة البوفيه؛ والتى أثبتت مهارة عالية فى أدائها لهذا الدور الذى شكل إضافة لها حيث غيرت هيئتها فلم تعتمد على جمالها كما كان بالعرض السابق لتضفى على الشخصية مزيد من الكآبة والبؤس مع مسحة طفيفة من المرح؛ هكذا قدمت الورشة مجموعة من الوجوه الواعدة بأبسط الإمكانات المتاحة؛ العرض ديكور ورشة مسرح الهناجر؛ وملابس فريق العمل؛ إعداد موسيقى محمد مصطفى؛ استعراضات وإيقاعات هانى حسن؛ تأليف محمد السعدنى ومحمد الصغير؛ إضاءة وإخراج محمد الصغير.