الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الشهامة الريفية» و«المهرجون» نادر عباسى يحلق فى سماء الموسيقى خلال ليلة ساحرة

لعروض الأوبرا هيبة ووقار؛ وهيئة غير متكررة بالمسرح الغنائى سواء فى محتواه الشكلى أو التكوين الفنى والبناء الدرامى وكذلك مستوى التلقى نظرا لطبيعة عروض الأوبرا المعقدة فى ممارسة الغناء؛ يتمتع هذا الفن بخصوصية شديدة تمنحه تلك الهيبة وهذا الوقار بما يضمن له جمهورا يحترم خصوصيته.. قدمت دار الأوبرا على مدار أربعة أيام متصلة عرضى «الشهامة الريفية» لبيترو ماسكاني؛ و«أوبرا المهرجون» لروجيرو ليونكافيللو بقيادة المايسترو نادر عباسي؛ وإخراج عبد الله سعد؛ لعب البطولة أعضاء فريق أوبرا القاهرة.



يسرد المؤلف الموسيقى الحكاية بحساسيته الفنية الخاصة؛ ثم تبدأ هذه الرواية الموسيقية وتتفجر من السرد بالآلات إلى السرد بالأصوات؛ وكأن الصراع الدرامى يتجسد فى أعمال الأوبرا بتعدد وتصارع تلك الأصوات المتناثرة على خشبة المسرح على اختلاف مستوياتها؛ لم تقدم هنا الدراما فى سياقها المسرحى التقليدى المعتاد؛ بينما سترى الدراما بطازجتها.. «دراما خام» تقدم فى صورتها البدائية صراع قوى الخير والشر..الحب؛ الخيانة والانتقام؛ كل هذه التيمات تلعب بصورتها الواضحة دون مواربة أو التواء لرسم أبعاد وشخصيات كما هو الحال فى الأعمال الدرامية؛ تتناسب الدراما فى صورتها البدائية الأولى مع السياق الفنى أو المنطق الذى تقدم به سواء بالعصر الذى تتناوله الأوبرا المكتوبة «الشهامة الريفية» أو «المهرجون»؛ أو فى أسلوب استعراض هذه الأصوات الفخمة بطبقاتها ومستوياتها المختلفة على ألحان العزف الموسيقي؛ عروض شديدة الإستثناء فى إبراز مواطن فنية جديدة بممارسة المسرح الغنائي؛ فالأوبرا عمل مسرحى درامى كتب للغناء ترويه الألحان؛ ثم تترجم أصوات المطربين تلك الألحان المعقدة فى طبيعتها وأسس عزفها الحى مع السرد الغنائى المتواصل.

«الشهامة الريفية» تأليف بيترو ماسكانى تقع أحداثها فى القرن التاسع عشر بإحدى قرى صقلية؛ يدور الصراع بين تدوريدو الذى يسعى لفتح باب الود من جديد مع حبيبته السابقة تشعر زوجته بالغيرة الشديدة وفى محاولة منها لمنع هذا الود تثير غيرة زوج هذه الحبيبة القديمة؛ ويدب الصراع بين الزوج الغيور والرجل الخائن وينتهى بقتل توريدو على يديه؛ بينما أوبرا «المهرجون» تأليف روجيرو ليونكافيللو يكتشف فيها المهرج الذى يعلن عن موعد عرضه الفنى للجماهير خيانة زوجته مع عشيق لها بعد أن تتفق معه على الهرب؛ يقرر مصارحتها ضمن أحداث العرض ليمتزج التمثيل بواقعه الشخصى أمام الجماهير ثم الانتقام منها علنا وقتلها؛ اعتمدت هذه الأوبرا بشكل واضح على التيمة الشهيرة للمهرج الذى يعيش مأساة حياتية ويسعى للسخرية من هذه المأساة بأعماله الفنية؛ فهو عادة شخص ضحية الظروف أو المجتمع من حوله وقد تنتهى ملهاته بمأساة تشبه حياته الواقعية. 

 قدم المخرج عبد الله سعد عرضا شديد الدقة والإتقان الفنى فى استعراض أصوات مطربى الأوبرا والذى سعى بتقديمهم فى صورة تناسب هذا الاستعراض الصوتى بالأداء التمثيلى للأدوار بكلا العملين وبالتالى قدم نموذجا يحتذى به فى هيئة وشكل فنى مبهر جاذب للمسرح الغنائى الذى تثبت فيه دار الأوبرا أنها الأقدر تقنيا وفنيا على تقديمه بدقة واحتراف كبير.

 ثم يأتى قائد كل هذا الجمع الغفير المايسترو نادر عباسى الذى حظى بنصيب من اسمه.. القائد النادر.. تتلبسه حالة من العشق للموسيقى التى يقودها ويتقن إخراجها للجمهور؛ فإذا كان مخرج العرض المسرحى يجيد تحمل مسئولية حركة الممثلين وأدائهم والشكل النهائى للعمل الفني؛ كذلك يجيد عباسى مسئولية إخراج الموسيقى التى ستصل إلى آذان المستمعين؛ يشغله كيف تصل وإلى أى مدى ستخرج تلك الألحان متعددة الأصوات فى «هارموني» أو انسجام بديع؟!.وكذلك كيفية ضبط إيقاع هذه الألحان ومزجها فى تلاحم لا ينفصم بأصوات المطربين على تعدد أصواتهم وأشكال توزيعهم على خشبة المسرح بمشاهد جماعية؛ ثنائية؛ وأحيانا فردية؛ تجد المايسترو فى حضور دائم.. تشغله مساحة السرعة والوقت فى لعب المقطوعة الموسيقية ومسار اللحن فى دقة محسوبة مع تلك الأصوات المتابينة والمتفجرة بفيض من التنوع والإبداع؛ يبدو مهموما بإمتاع جمهوره بما أحب وآمن من فن رفيع؛ ويبادله الجمهور هذا الهم والاهتمام؛ برغم دقة وحساسية مهنته التى قد لا يعلم تفاصيلها الكثيرون عن مدى تأثيره وأهمية موقعه بالعمل الفني؛ إلا أنه أصبح المايسترو الأكثر شعبية والأكثر جذبا لآذان المستمعين؛ تأتى لتسمو روح العاشق السارح والمتصل روحيا بموسيقاه ليشعر به جمهوره قبل أن يفهمه فهما علميا دقيقا.. يلعب عباسى النادر بحرفة الأوربيين فى قيادة جمع لا حصر له من البشر عازفى الأوركسترا السيمفونى بالحفرة أمامه ثم المطربين أبطال العرض الأوبرالي؛ تركيز حاد واتزان فى إدراة خشبة المسرح من الأسفل إلى أعلى؛ يتحد بعمله فى حالة من العشق الصوفى ينتفى فيها المنطق والزمن.. عرج بالموسيقى وأصوات المطربين وكأنه درويشا يمارس طقس الصلاة فى خشوع ليقود اتباعه محلقا فى سماء الإبداع! 

 صمم الرقصات شريف رمضان، والاضاءة المهندس ياسر شعلان وديكور وجرافيك محمد عبد الرازق ؛ يؤدى شخصيات أوبرا الشهامة الريفية جيهان فايد بالتبادل مع جولى فيظى فى دور سانتوزا، امينة خيرت بالتبادل مع ليلى ابراهيم فى دور لوسيا، مصطفى محمد بالتبادل مع تامر توفيق فى دور الفيو، رجاء الدين احمد بالتبادل مع مصطفى مدحت فى دور توريدو، نوريستا الميرغنى بالتبادل مع امينة خيرت فى دور لولا؛ ويلعب شخصيات أوبرا «المهرجون» منى رفلة بالتبادل مع داليا فاروق فى دور نيدا، عمرو مدحت بالتبادل مع رجاء الدين احمد فى دور كانيو، الايطالى لوكا سيمونيت بالتبادل مع جورج جمال فى دور طونيو، ابراهيم ناجى بالتبادل مع مينا رفايل فى دور بيبى، إلهامى امين بالتبادل مع خالد سمير لى دور سلفيو، رامز لباد بالتبادل مع اسامة على فى دور كونتادينو. 

الجدير بالذكر ان بيترو ماسكانى مؤلف موسيقى ايطالى  اشتهر بأعماله للاوبرا وسمى ابو الاوبرا الواقعية التى ظهرت فى الساحة الموسيقية بإيطاليا فى آخر عشر سنوات من القرن التاسع عشر واستلهمت من الواقعية الأدبية لعدد من الكتاب أمثال اميل زولا والصقلى جوفانى فيرجا وتميزت بالمشاعر المتطرفة لشخصياتها ذات البعد الواحد والتوتر الشديد والايقاع السريع للاحداث؛ اما روجيرو ليونكافالو موسيقار ايطالى كان احد اهم الدعاة للواقعية الفنية فى الأوبرا كرد فعل مضاد لتيار الرومانسية المسيطر فى تلك الفترة، التحق بالمعهد الموسيقى لمدينة نابولى فى التاسعة من عمره، بدأ كتابة الأوبرا منذ عام 1876وكان اولها  تشاترتون التى نتجت بعد دراسة موسيقية وادبية باهرة، وضع ايضا عدة اوبرات هى باياس عام 1892 والتى لا تزال تعتبر حتى اليوم من أشهر الأعمال الأوبرالية الإيطالية وتكاد وحدها تحمل شهرته كمؤلف، آل مديتشى عام 1893، تشاترتون عام 1896، البوهيمية عام 1879 وزازا عام 1900 وحققت نجاحا كبيراً..