السبت 28 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
إنتى جاية اشتغلى إيه؟

إنتى جاية اشتغلى إيه؟

نفسك تطلع إيه لما تكبر؟.. سؤال طالما اعتدنا على سماعه ونحن صغار، وبعد برهة من التفكير والتأمل فيما حولنا، كانت تأتى إجابتنا محملة بقدر لا بأس به من البراءة التى تملأ قلوبنا الصغيرة، ننظر للعالم بمثالية كبيرة لا يشوبها أى شك أو قلق، وبدورنا كبرنا وورثت ألسنتنا هذا السؤال فلم نترك طفلاً من أبناء الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء والمعارف إلا وقد سألناه إياه.



إجابتنا قديمًا كانت مثالية ونموذجية لحد البراءة، الولد كانت تنحصر طموحاته فى أى من هذه المهن - ضابط، طيار، دكتور، أو مهندس، أما الفتاة يكون لها رأي آخر يعبر عن طبيعتها كأنثى، وتطلعاتها فى النجاح والإبداع، تود أن تصبح  مذيعة مرموقة، مضيفة تلف العالم، دكتورة تعالج الآخرين - أولهم والدتها، أو مدرسة أسوة بإحدى مدرساتها،، المثير دائمًا أن الإجابة لا تخرج عن واحدة من هذه الأمنيات أو قلما يحدث ذلك وإلا لن يرى الكبار حينها أنك شاطر.

كبرنا وتغيرت أحلامنا قدر تغير ملامحنا، هناك من استطاع أن يعمل فى المجال الذى تمناه ورسمه بدقة فى خياله منذ الصغر، والبعض الآخر لم يسعفه الحظ وكتب له القدر طريق آخر أفضل يليق بإمكاناته - حتى وإن لم يرى هو ذلك، وسرعان ما دارات الأيام وجاء علينا الدور لنسمع إجابات أطفال اليوم، الأكثر حظاً بنظرنا، فى ظل التطور التكنولوجى الذى يعيشون فى براثنه، ونظن أنه بالتأكيد سيدفعهم لمزيد من الإبداع والابتكار وامتهان مهن أخرى «خارج الصندوق»، فى عالم توافرت فيه كل سبل الراحة والرفاهية، ويبدو أن عدوى الرفاهية أصابتهم فتقلصت بسببها أحلام بعضهم فى أن يصبح يوتيوبر أو تيك توكر أو انفلونسر أو بلوجر أو أى شيء ينتهى بحرف الراء، وعلى طريقة إذا عرف السبب بطل العجب فإن هدفهم «يكسبوا فلوس كتير»!

نعم.. المسميات المذكورة أعلاه هى بالطبع خارج الصندوق وغير تقليدية، لأنها بالطبع إفراز طبيعى ومنطقى لتغلغل التكنولوجيا فى كل حياتنا واستخدامنا المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن لا يمكن وصفها بأنها شغلانة أو مهنة أو وظيفة، لأنها لابد أن تكون مبنية على أساس من العلم والخبرة، وتتطلب مجموعة معقدة من المعارف والمهارات، التى يتم اكتسابها من خلال التعليم الرسمى والخبرة العملية، وكل ما يفعله معظم ما يطلقون على أنفسهم بلوجر أو انفلونسر، يخرجون إلى جمهور السوشيال ميديا العريض من خلال شاشة موبايل صغيرة يشرحون للعالم روتينهم اليومي، أو يوجهون نصائحهم بناء على تجارب شخصية وخبرات مرتبطة بعقد طفولتهم البائسة - ولأننا مختلفين فما ينفعك لا يجدى معى أو مع غيري، وكثير مما يقال غير مبنى على أساس علمى سليم، لكنه من واقع تجربة شخصية لا تسمن ولا تغنى من جوع.

المثير للاشمئزاز حقًا هو تهافت القنوات الفضائية على استضافة هؤلاء «البلوجر» وتلميعهم لصنع نجوم مجتمع منهم - فقط لأن الفيديوهات الخاصة بهم تحقق نسب مشاهدات عالية، وعندما تنظر للمحتوى تجده منزوع الدسم خالى الفائدة، يفتقد للحد الأدنى من المعلومة المفيدة - ومع كل ما سبق يبقى هناك من يعجبه ذلك، فيقضى ساعات يومه متنقلاً بين هذه الفيديوهات «الولا حاجة»، ليحقق غيره ربحاً مادياً مستخدماً حيلة «الضحك على الدقون»!

منذ فترة قصيرة شاهدت بلوجر غير مصرى الجنسية مقيم بمصر، ومن فرط سعادته بالحصول على الإقامة المصرية قام بعمل فيديو «عادى جداً» - لكنه حصد ملايين المشاهدات، وبقدرة قادر تحول فجأة من شخص بائس لم يكمل تعليمه، ويعانى من بعض المشاكل الأسرية إلى نجم شاشة،، ويبدو أن ذلك كان كارت بلانش  للظهور فى عدد لا بأس به من البرامج، بشكل يكفى لاغتيال حلم أى شخص، يقدم شيئا مفيدا وحقيقيا حتى يصل للناس، ويظهر فى ربع هذه البرامج - والحقيقة أننى عندما أرى أشخاصاً من نوعية هذا البلوجر وغيره، ممن يتحدثون عن روتينهم اليومى نجوماً على شاشة التلفزيون، تستحضرنى مقولة «انتى جاية اشتغلى ايه؟» للفنانة الكوميدية العظيمة مارى منيب فى مسرحية «إلا خمسة»، بمشهد ظل حتى يومنا هذا يضحك الجميع أمام الفنان الراحل عادل خيرى، وهى تسأله طوال المشهد وينفجر الجمهور بالضحك، ولكن هل المشهد الذى نعاصره حالياً يدعو للضحك حقاً؟!.. وإذا ضحكنا فلا جرم ولا مساءلة لأن شر البلية ما يضحك.