"أوضة نومى 2" المرأة أصل حكايات البوح بالغرف المغلقة
كتبت: هند سلامة
دعوة لترك خشبة المسرح وتقاليدها الدرامية بأشكالها المكررة، وكذلك ترك القيود والإفصاح عن خبايا القلوب، وخلق إبداع جديد فى أماكن موازية لا تشبه خشبة المسرح لكنها تشبه واقع الحياة، من واقع الحياة اتخذ فريق «ستدج ليفت» مسارًا آخر فى الإبداع الفنى، المنتمى لتيار المسرح المستقل بقيادة المخرج محمود سيد الذى أطلق على فريقه هذا الاسم كناية عن ترك المسرح أو عن موقعه من يسار المسرح، واليسارحركة فكرية مناهضة ومناقضة لليمين المتطرف أو المتمسك بالتقاليد، عاد المخرج ورئيس الفريق من انجلترا يبحث عن مساحات أخرى لتقديم شكل غير معتاد، سعى سيد إلى الخروج عن السياق فى تقديم أعمال مسرحية مغايرة سواء على مستوى التناول أو الطرح الفنى.
حكايات وقصص إنسانية قدمت فى تناول درامى متفرد واستثنائى، أربع قصص متفرقة حول العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، الحكاية الأولى زوجة تحاول إقناع زوجها للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن حصلت على فرصة للغناء بإحدى فرق برودواى، لكنه يخيرها بين استمرار علاقتهما أو السفر، الحكاية الثانية عن امرأة أدركت بعد عمر طويل أنها لم تحظ بالمتعة المنشودة فى علاقتها بزوجها فتقرر البحث عن تلك المتعة مع شاب صغير يعوضها عن سنوات الحرمان بالماضى، القصة الثالثة لأخت قررت حبس أختها المدمنة حتى تحجبها عن أنظار الناس خوفًا من الفضيحة وكى تكرهها على الاستجابة للعلاج، القصة الأخيرة عن زوجة تكتشف بالمصادفة بعد عشر سنوات أن زوجها مثلى الجنس!
منذ لحظة الاطلاع على اسم العرض المسرحى «أوضة نومى2» ستدرك أنك أمام تجربة تتعلق بحكايات وتفاصيل تحدث عادة فى السر أو خلف الغرف المغلقة، أسرار خاصة موقعها الأصلى غرف النوم.. المكان الذى نتجرد فيه من كل شيء وتبدو لنا حقيقتنا بكل قسوتها وعنفها، يدور العرض داخل غرفة نوم حقيقية اختار المخرج الموقع بغرفة صغيرة، مساحة جمعت بشكل استثنائى بين الجمهور والممثلين، جلس الجمهور على أرض تلك الغرفة وسار الممثلون بينهم وكأن لا أحد يشاركهم تلك المساحة الحساسة شديدة الضيق والحميمية، حتى أن البعض كان يسير فى خط حركته غير عابئ بالاصطدام أحيانًا بهذا الجمهور الجالس يراقبهم ويتابعهم ويتربص بهم فى تفاصيل قصص العرض الدقيقة والمتنوعة.
عمل فنى شديد الجرأة والحساسية فى أسلوب التناول وطرح قضايا إنسانية ربما قد نخجل أحيانًا من تناولها بهذا الشكل الجرىء، يسعى المخرج وفريق العمل إلى التعايش بشكل واقعى مع هذه القصص القصيرة وكأننا بين أصحاب القضايا الأصليين، نعيش داخل عالمهم السرى الغامض، فى غرفة صغيرة احتوت على سرير وخزينة ملابس ومرآة كبيرة ومنضدة وأريكة تبدو فى النهاية وكأنها شقة صغيرة دارت داخلها تلك الحكايات الدرامية القصيرة، يتجول الممثلون بكل أريحية وقوة ولامبالاة بين الجمهور الجالس على الأرض، لا يشكل هذا الزحام أو الالتصاق أى عائق فى حركة الممثلين أوعلى تركيزهم فى أداء عملهم مهما ضاقت المسافة الفاصلة بين الممثل والجمهور، هنا تجرد الممثل من كل شيء إلا موهبته، وبالتالى نحن أمام تجربة شديدة التفرد والاستثناء سواء فى أداء الممثل وعمق تركيزه بالعمل الفنى، أو فى وضع الجمهور وموقعه على مسافة واحدة من هذا الممثل الذى يلتصق به وكأنهم أصبحوا شيئًا واحدًا لا يفصلهم سوى تبادل الأدوار، وهو ما يرسخ لمنطق جديد ومختلف فى فكرة التعايش بين الجمهور والتمثيلية، وكأن بطل القصة والمشاهد أصبحا شخصًا واحدًا، قد يشعر أحيانًا الجمهور بنفس قدر مشاعر البطل من حزن أو فرح أو شعور بالذنب أو الخجل.
تعتبر المرأة فى حد ذاتها قضية شائكة بالمجتمعات الشرقية، تأتى هذه الخصوصية والتعقيد من كونها أنثى بالأساس، لذلك تحاط حكايات وقضايا المرأة بقدر كبير من السرية والكتمان، عادة ما تعانى المرأة وحدها نفسيا تتحمل صراعاتها الداخلية دون أن تجرؤ على البوح بها سواء فى مشاكلها مع زوجها أو المجتمع بشكل عام، بينما داخل هذه الغرفة الصغيرة التى اختريت موقعا للأحداث وملجأ للبوح، يبوح النساء بأسرارهن وتفصح كل منهن عن معانتها النفسية، دراما غلفها الألم والشعور بالذنب على تنوع واختلاف تلك القضايا والأحداث المتسببة فى ولادة هذه المشاعر، الأولى تبوح لزوجها بشدة سيطرته عليها وتحجيمه لطموحها وإذلاله الدائم لها بأنه من علمها احتراف الغناء فى فريقه كيف تتجرأ وتطمح لتحقيق شىء بعيد عن عالمه وسيطرته قدمته البطلة دينا سالم بذكاء واحتراف كبير بتنوع أدائها بين التمثيل والغناء، أما القصة الثانية وتعتبر الأجرأ على الإطلاق وأكثرهم شدة فى الغوص بعمق وتشريح أزمة يعانى منها عدد كبير من النساء بينما لا يتجرأن على البوح بها، قد تعيش معظمهن عمرا بأكمله لا تمتلك الشجاعة الكافية للبوح بهذا السر، قصة سيدة أدركت بعد فوات الأوان أنها لم تصل أو تحصل على المتعة المنشودة فى علاقتها بزوجها كانت علاقتهما الحميمية علاقة تقليدية آلية بغرض الإنجاب، لم تشعر بالاستمتاع معه طوال حياتهم الزوجية المملة لكنها لم تجرؤ على الاعتراف بهذا الأمر له أو لغيره، ثم قررت الخروج من هذا السجن والتمرد على التقاليد بالإقدام على ممارسة علاقة مع شاب قد يعوضها عن سنوات العمر الضائعة أو كى تعيش معه تجربة لم تعهدها من قبل، اقتبس المخرج الفكرة من الفيلم الأجنبى «حظ سعيد لك ليو جراند».. قد يبدو الطرح وأسلوب التناول غربى تماشيا مع القصة الأصلية للعمل الأجنبى، بينما القضية فى حد ذاتها عامة قد تواجهها العديد من النساء فى شتى بقاع الأرض، أبدع فهد إبراهيم والممثلة هالة عمر فى تقديم حكايتهما ربما كانا الأمتع والأمهر فى لعب هذه القصة القصيرة الجريئة بمنتهى الحرفية والإبداع لعب فهد بخبرته المسرحية الكبيرة فى هذا السياق الفنى غير المعتاد مزج بين الأداء الكوميدى الساخر والمتوتر من تردد تلك المرأة فى ممارسة علاقة معه، وكذلك الفنانة هالة عمر التى تقدم نفسها لأول مرة بمهارة المحترفين برغم مشاركتها الأولى فى عمل فنى بهذه الصعوبة والحساسية الاستثنائية إلا أنها استطاعت أن تنقلنا إلى كل مشاعر هذه المرأة المتناقضة التى تخبطت فيها البطلة بين الرغبة والشعور بالخجل والذنب بمجرد تفكيرها فى تحقيق رغبتها بشكل متهور وغير محسوب بإقبالها على تأجير شاب يعينها على حل أزمتها، ثم تراجعها فى اللحظات الأخيرة كل هذه المشاعر المتضاربة استطاعت هالة رغم تجربتها المحدودة بالتمثيل أن تنقل هذه الحالة الشعورية الدقيقة.
تنتهى هذه القضية الجريئة الشائكة ثم ننتقل إلى قصة أخرى مع الأختين حياة وحنين التى تسعى إحداهما لعلاج الأخرى من الإدمان بحبسها وتحديد إقامتها بالمنزل وغلق الأبواب عليها حتى لا تسبب لها المشاكل أمام الناس، لعبت كل من ناندا محمد وسمر جلال دور الاختين المتنافرتين اللاتى تعيشان فى فرقة وألم واضطراب دائم بسبب تلك القضية، فالأخت الكبرى تشعر بحرج دائم ومسئولية تجاه أختها التى لا تستجيب للعلاج بسبب صدمة حادث وفاة والدتهما، جانب آخر هنا وتناول مختلف من قضايا المرأة فهذه الأخت الكبرى دائمة الشعور بالحرج من أختها تعنفها بشدة ولا تستطيع مواجهة المجتمع بها، وبالتالى تختار أن تعزلها عن أنظار الجميع.. تفوقت ناندا وسمر فى أداء دور الأختين المتصارعتين، تعايش الجمهور وتعاطف بشدة مع تلك الفتاة المغلوبة على أمرها التى أرهقتها العزلة والاكتئاب قدمت سمر دورها بمهارة المحترفين، وكذلك ناندا فى عنفها وشعورها الدائم بالذنب والظلم المتكرر تجاه شقيقتها، ثم يأتى أبطال الحكاية الرابعة والأخيرة سارة خليل، ناجى شحاتة، سامى داود وعمرو حلمى، رجل وزوجته وصديق قديم يستعدون للإحتفال بالسنة الجديدة وفى مفاجأة مباغتة تكتشف الزوجة أن زوجها وهذا الصديق على علاقة ببعضهما البعض، تجتر الزوجة أحزانها وتواجه هذا الزوج بتهربه الدائم من رغبتها فى تحقيق حلم الأمومة، وبالتالى تأتى هنا قضية أخرى وبوح آخر مختلف عن القضايا السابقة بوح لسنوات من الألم والأنانية والظلم والخداع، مواجهة ربما تعانى منها بعض النساء بالواقع لكنها لا تجرؤ على البوح بها بتلك الجرأة وهذا الوضوح، لعب الممثلون أيضا هذه القصة بمهارة واحتراف كبير خاصة سارة خليل التى استطاعت أن تشارك الجمهور مشاعر الصدمة والألم خاصة فى مشهد تناولها الطعام بشكل متسرع وعشوائى من شدة ما تعرضت له من صدمة عنيفة فى قصة حب أحاطها الزيف والضياع.
تعتبر هذه التجربة الثالثة للمخرج محمود سيد وفريقه «ستدج ليفت» لهذا النوع من المسرح بعد تجربته الناجحة فى عرض «النجاة» لنجيب محفوظ، ثم «أوضة نومى» الجزء الأول، بينما جاءت «أوضة نومى2» أكثر نضجا سواء على مستوى تعدد الحكايات وصياغة الدراما وأسلوب تناولها وإن بدا غربى أحيانا فى بعض الحلول الدرامية خاصة بإحتواء العرض على أغانى غربية سواء فى التعبير عن الحزن أو الفرح والحب، كما كان للتمثيل شأن آخر فى هذا العمل الذى كان بطل العرض بامتياز فإن لم يكن الممثلون على قدر عال من الوعى والإدراك لحساسية العرض الفنية فى الحركة والأداء لوقع العمل فى فخ كبير من التفكك والملل، فهذا النوع يحتاج إلى ممثل من طراز خاص.. طراز رفيع وهو ما توفر فى معظم أبطال العرض بقدر كبير أغلبهم تمتع بمستوى عال من المهارة والاحتراف والخبرة الفنية التى تؤهله للعب عمل بهذه الحساسية والتفرد والإستثناء، شارك فى بطولة العرض أيمن جميع، سامى داود، عمرو حلمى، ناجى شحاتة، والمطربون ريم قنديل، آية ترزاكى، عزو، يعقوب ياسين.