رشاد كامل
صدقى باشا وحربه ضد «روزاليوسف»!
كنت أعرف مقدمًا أن موقف «روزاليوسف» سيجر عليها المتاعب، ولكننى لم أتوقع أن تجىء هذه المتاعب بهذه السرعة وبهذا العنف».
هكذا تواصل السيدة روزاليوسف حكايتها مع حكومة إسماعيل صدقى باشا وتضيف قائلة: وصدر العدد رقم 184 وقد رسمت على غلافه صورة كبيرة بعنوان حكم الإرهاب تمثل مصر بلدًا محترقًا وعليها يدوس إسماعيل صدقى وقد حمل فى يده مسدسًا يتصاعد من فوهته الدخان وكتب تحتها:
إسماعيل صدقى يحكم البلاد بالعناصر الرشيدة: الحديد والنار!
هذا العدد كان يجب أن يصدر يوم خمسة أغسطس 1930 وقد فرغنا من إنجازه وسافرت أنا إلى الإسكندرية وسافر «التابعى» إلى رأس البر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.
ولم يمض يومان حتى جاءنى الخبر أن دولة «صدقى باشا» ألغى رخصة المجلة إلى أجل غير مسمى وصادر البوليس ثلاثين ألف نسخة من العدد ومنع طبع باقى الكمية، وعُطلت المجلة نهائيًا دون إبداء أسباب المصادرة والتأجيل!! وكانت هذه أول مآثر يد الباشا علىّ وكان هذا النبأ صدمة لى.
وتمضى روزاليوسف قائلة: عجبت لأننى كنت أسمع دائما أن صدقى باشا رجل «كيّس» مع الجنس اللطيف تنال منه الابتسامة الحلوة أكثر مما ينال منه أى شىء آخر، وأنه كثيرا ما أبدى إعجابه بأسلوب المجلة وامتدح نكاتها المتوبلة!
وكسيدة قبل كل شىء هجس بخاطرى أن أسعى إلى مقابلته لأطلق عليه واحدة من ابتساماتى ولكن سرعان ما خنق عنادى وكرامتى هذا الهاجس! وقلت لمن صارحتهم بهذه الفكرة: «أنا وصدقى باشا والزمن طويل!
وكنت قبل ذلك بقليل قد اشتريت - لأول مرة - سيارة خاصة وكانت سيارة كبيرة «ناسن» ثمنها ستمائة جنيه دفعت منها مائة مقدما على أن أقسط الباقى 25 جنيها كل شهر وكان أول ما اتجه إليه خاطرى حين علمت بقرار إغلاق المجلة إلى أجل غير مسمى أن أتخلص من هذه السيارة، فمن أين سأدفع قسطها الشهرى والمجلة معطلة!
وعدت إلى القاهرة وقصدت فورا إلى المحل الذى اشتريت منه السيارة وعرضت عليه أن أترك له المائة جنيه التى دفعتها مقدما ويسترد منى السيارة، وسألنى صاحب المحل عن السبب فشرحته له بصراحة، ورفض الرجل أن يأخذ السيارة وأصر على أن أحتفظ بها وأن أدفع له فى أى وقت أستطيع!
ولم يطل زمن تفكيرى فيما يجب عمله فاستأجرت مجلة جديدة وواليت حملتى على الوزارة بنفس الشدة، فكان أن صودرت، واستصدرت ثانية لتلاقى نفس النهاية وهكذا..
فحمدت الله على شىء واحد، وهو أن فيران المحافظة و«صراصيرها» أصبحت تجد غذاء شهيا فى أكوام المجلة المصادرة فهى تأكل بغير رقيب، وهى تسمن ولا تبالى بأصول النحافة والرشاقة حتى أصبحت مثل العجول!!
وإلغاء رخصة المجلة حادث جلل ينطوى على معان كثيرة لها وجوه كالحة يمتد «بوزها شبرين»، وأبرز هذه المعانى ابتداء عهد جديد فى التشرد الصحفى وفى ضيق ذات اليد، وما يتبع ذلك من أوجاع الرأس والجيب.
تحملت الكارثة بأسى الصابر وغيظ الكظيم ومرح المفلس الطروب!
كان ذلك فى أواخر شهر أغسطس سنة 1930 وكنت أصطاف فى الإسكندرية فى منزل يقع بجوار معسكر الإنجليز بسيدى جابر، وسرعان ما نبهنى مكثى الطويل بين جدران غرفتى إلى أن البيت الكريم تغشاه جيوش من الذباب والناموس وبالفحص والمراجعة، اتضح لى أن مصدر هذه الجيوش الكريهة المنظر هو المعسكر المذكور نظرا لقربه منا، وإلى أن الذباب كان يشارك الجنود الإنجليز فى أكل البلوبيف والبطاطس المسلوقة وكان هذا النوع من الذباب يتلقى رشاش «الفليت» ولا يبالى بل كان يلوح لى أنه يخرج لسانه ويقهقه، وشاءت أوجاع النكتة أن تتحرك على شفاه أحد الأصدقاء فقال لى:
- دى مؤامرة من صدقى باشا ومن الإنجليز يا ست!
وصادفت هذه النكتة على تفاهة نصيبها من الحقيقة هوى من عقلى الباطن، فاشتريت «مطرحة» من السلك ورحت أتسلى بضرب الجنود المعادية وأنصار صدقى باشا بهذه المطرحة وكنت كلما أسقطت «ذبابة مفرعنة» أصيح: دوق الضرب يا أبوالسباع، وأبوالسباع هنا هو «صدقى باشا» ولا فخر!!
وللذكريات بقية!