الخميس 12 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
المرحلة الثانية للمخطط.. من تدمير الدول داخليًا إلى تآكل الشعوب ذاتيًا

المرحلة الثانية للمخطط.. من تدمير الدول داخليًا إلى تآكل الشعوب ذاتيًا

لو أن للتاريخ عينين ولسانًا وشفتين، لاستلقى على ظهره، من فرط سخريته، من تكرارنا دفع أثمان باهظة من مقدرات دولنا ودماء شعوبنا، بسقوطنا فى فخاخ الأعداء، وشراك غياب الوعى.



لو ينطق التاريخ لصرخ فينا، ألا تنظرون، ألا تتذكرون، ألا تفقهون، ألا تعقلون، ألا تتعلمون، لست مجرد أحداث وذكريات، انتصارات وانكسارات، بل قلب نابض، يضخ فى شرايين العقول الواعية، الدروس والعظات، علها تستقى من الماضى خبراته، لتواجه الحاضر بتحدياته، أملًا فى بناء مستقبل أفضل بتوقعاته.

على بعد خطوة واحدة، بمقاييس التاريخ، فى العاصمة العراقية بغداد فى التاسع من أبريل 2003، بدأت المرحلة الأولى من مخطط إسقاط الدولة الوطنية العربية، بمشهد إسقاط تمثال الرئيس الراحل صدام حسين، وسط مشهد احتفالى مُصطنع، مُبشر بالحرية والديمقراطية الخادعة.

وعلى بعد لحظات، الأحد الماضى 8 ديسمبر 2024، بدأت المرحلة الثانية لمخطط إعادة رسم خارطة المشرق العربى، بالمشهد ذاته فى العاصمة السورية دمشق، إسقاط تمثال حافظ الأسد، وسط مشهد احتفالى مشابه، أملًا فى حرية وديمقراطية موعودة.

بين المشهدين متطابقات، ومتغيرات فرضتها طبيعة المرحلة. أولًا: المتشابهات:

١- الفاعلون: القوى الدولية الساعية إلى نهب ثروات المنطقة وإضعاف قدراتها على مواجهة المخططات.

أ- فى العراق حلف الخفاء:

فى العلن قوات أمريكية وبريطانية، وفى الخفاء إسرائيل التى تجرأ صدام على قصفها صاروخيًا، وإيران صاحبة المشروع الفارسى والتى استنزفت قدرات العراق فى حرب الثماني سنوات، وجنت سقوط الدولة مع الأمريكان فى شكل نفوذ مذهبى.

ب - فى سوريا صفقة الأعداء الخمسة:

تصارع خمس قوى دولية، بمشاريع إقليمية توسعية، وأصحاب مصالح جيوسياسية تسعى لتعزير نفوذها فى إعادة رسم خريطة القوى العالمية.

انقسموا بين حلفاء لنظام الأسد: روسيا وإيران بأذرعها فى مقدمتها حزب الله، وأعداء بقيادة أمريكا وإسرائيل وتركيا لحساب أهدافها الخاصة وفى القلب منها تأمين حدودها وصراعها مع الأكراد.

أبرم المتصارعون تحالف خفاء، بموجبه رفعت الحماية عن بشار، وتعاظم دعم وتحريك الميليشيات المسلحة بتمهيد نيرانى صهيوني، لإسقاط «البعث الأسدي» ظاهريًا.

٢- مشهد سقوط الجيوش:

انهيار سريع يبدو مفاجئا، ففى العراق كان آخر بيان للصحاف الذى يتوعد العلوج قبل ساعة من سقوط بغداد، فيما كان بيان المتحدث باسم الجيش السورى عن إعادة التموضع واستحكامات بغداد قبل ساعات من اقتحام الميليشيات لها.

- جيش العراق استنزف لسنوات فى الحرب مع إيران، ثم سنوات الحصار، الأمريكي، وجيش سوريا استنزف 13 عامًا، فى حرب الميليشيات.

٣- السقوط فى ثلاثة أسابيع:

بدأت الحرب على العراق ٣٠ مارس ٢٠٠٣، ولم تستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع لسقوط بغداد، فى تشابه مع مدة سقوط دمشق.

٤- استخدام المصطلحات الخادعة ذاتها:

 العراق «عملية تحرير العراق»، سوريا «هيئة تحرير الشام»، وفى الحالتين الزعم أن الهدف إسقاط نظام ديكتاتورى.

٥- الحقيقة الهدف إسقاط الدولة الوطنية وليس النظام السياسى 

- فى العراق: كان أول قرارات الحاكم «بول برايمر»، حل وزارتى الدفاع والإعلام، والأجهزة التابعة لهما وتسريح جنود وضباط الجيش وقوات للحرس الجمهورى والمؤسسات الأمنية واستيلاء الاحتلال على مقراتها، وتسريح الجنود والموظفين، ووقف تجنيد الشباب فى الخدمة العسكرية.

كان الهدف بث اليأس فى نفوس المقاومين بأن نظام صدام انتهى ولن يعود.

وعد بول بريمر الحاكم باسم الاحتلال شعب العراق بتشكيل «هيئة دفاع وطنى للعراق»، لاحظ تطابق المصطلحات «هيئة»، ذاته «هيئة تحرير الشام».. فمصدر تخليق المصطلحات أجهزة واحدة.

- فى سوريا:

تولى الاحتلال الصهيونى مهمة تدمير الجيش السورى بمجرد سقوط دمشق، حيث نفذ فى غضون 24 ساعة 320 غارة استهدفت أسلحة استراتيجية ومخازن سلاح ومطارات عسكرية ودفاعات جوية، فيما تولت البحرية تدمير الأسطول البحرى السورى أمس.

فقد أعلن يسرائيل كاتس وزير جيش الاحتلال أمس تدمير الأسطول السورى، واحتلال المنطقة العازلة بين حدود سوريا والجولان المحتل ليلتهم الصهاينة بذلك نحو ٣٠٠ كيلو متر إضافى من سوريا، ويصبحون على بعد ٢٥ كيلو مترا فقط من العاصمة دمشق.

وأعلنت إذاعة جيش الاحتلال تدمير مقدرات الجيش السورى بالكامل.

إذًا، هل الهدف تدمير سوريا الدولة وليس نظام الأسد، تمهيدًا لتمكين الميليشيات المتصارعة على بسط النفوذ على الأرض لاستخدامها فى تنفيذ المراحل التالية من المخطط.

ثانيًا: مرحلة التآكل الذاتى شعبيًا 

المرحلة الثانية من المخطط تآكل الشعوب ذاتيًا، بإشعال صراعات طائفية، هدفها الأكبر تحويل الصراع العربى الصهيونى الممتد منذ عام 1948، إلى صراع سنى شيعى يدمر الأمة العربية.

- أسقط العراق بقوة عدوان خارجي، ثم الجيش والمؤسسات لإعاقة فرص إعادة بنائه بواسطة حكم وطنى جديد، والتمهيد لإخلاء الساحة للميليشيات العميلة والتنظيمات الإرهابية المخلقة بواسطة أجهزة المخابرات للعب دور تمزيق النسيج الوطنى وتآكل الشعب ذاتيًا فى حرب طائفية ومذهبية.

تجربة العراق كانت كلفتها عالية بالنسبة للأمريكان فقد قتل نحو 4500 من جنودهم وفرقهم، وافتضحت جرائمهم وأكاذيبهم بشأن السلاح النووي، فضلًا عن تنامى النقد الداخلى عن تسببهم فى تنامى التنظيمات الإرهابية.

الإسقاط من الداخل 

- بدأت المرحلة الثانية بتعديل المخطط ليتم استخدام آليات إسقاط الدول من الداخل بأيادى مجموعات من أبنائها، بدراسة واقع عربي، أسهمت أخطاء بعض أنظمته فى خلق بيئة هشة، قابلة للاشتعال.

- مع تحرك الشعوب بداية من تونس فى ديسمبر 2010، مرورًا بمصر واليمن وليبيا والسودان فى أحداث 2011 وما تلاها، عبر استثمار الحراك الشعبى المطالب بالإصلاح والتغيير، للانحراف إلى التخريب والتدمير.

- كان من أهم عوامل نجاح مخطط تدمير الدول من الداخل أو فشله، قوة جيش الدولة ووعى الشعب، والتفاعل الإيجابى مع الأحداث، وقرار رأس السلطة الحاكمة لحظة الاستهداف.

- بن على ترك السلطة وقال فهمت، فتولى الجيش حماية المرحلة الانتقالية لتفادى حرب أهلية، وانحاز جيش مصر للمصلحة الوطنية، حمى مقدرات الدولة، وغلّب الرئيس الأسبق حسنى مبارك مصلحة الوطن وتنحى، ليأتى دور الشعب الذى خدع بعضه لبعض الوقت فاعتلى الإخوان السلطة، فما لبث الشعب ذاته أن أطاح بهم بعد عام، وانحاز الجيش لإرادة الشعب.

- بينما تجارب اليمن وليبيا وسوريا تحولت إلى حرب أهلية أسهمت فى إنجاح مخططات هدم الدولة الوطنية وتمكين الميليشيات المسلحة.. فيما السودان حالة خاصة وإن بلغ بها المصير ذاته.

تنوعت أساليب إسقاط الدول من عدوان خارجى إلى إسقاط من الداخل للانتقال لمرحلة تالية هى هدم الشعوب ذاتها بصراع داخلى مذهبى طائفى.

مساحيق التجميل 

رغم تشابه المشهد أبوبكر البغدادى يعلن نفسه خليفة للمسلمين من منبر جامع النورى التاريخى فى الموصل، ويخطب أبو محمد الجولانى من المسجد الأموى التاريخى فى دمشق.

لكن الجولانى قُدم بمساحيق تجميل، فقد عاد لاسمه المدنى أحمد الشرع، وتحدث بصوت هادئ، ورسمت له خطة إعلامية للتسويق الذى يبرر لأمريكا التى وضعت تنظيمه على قائمة الإرهاب سابقًا، تعديل موقفها لتمكينه من أداء الدور الجديد.

الخلاصة: 

١- الهدف واحد تدمير الدولة الوطنية العربية خاصة دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيونى لتمكينه من التمدد، وتعظيم قدراته فى خدمة مصالح صانعيه وداعميه.

٢- يتحقق الهدف من خلال هدم الجيوش والمؤسسات الوطنية، لإتاحة الفرصة للميليشيات لبسط النفوذ.

٣- إشعال صراع بين الميليشيات بتنوعاتها لتدمير الشعوب ذاتها.

٤- الجائزة الكبرى والهدف الرئيسي: تحويل الدول لدويلات طائفية عرقية متصارعة تدير صراعاتها الدول للعظمى الفاعلة والمحركة وفق مصالحها.

٥- يتحقق الهدف الرئيسي بتحويل الصراع الممتد منذ عام ١٩٤٨، من عربى صهيوني، إلى صراع عرقى مذهبى سنى شيعى، بتحالفات ميليشيات سوريا، فى مواجهة ميليشيات علوية، يمتد ذلك الصراع لدول الجوار لبنان والعراق واليمن، للحيلولة دون استعادة الدولة الوطنية واللحمة الشعبية.

المواجهة: 

على الشعوب أن تستيقظ، وتتسلح بالوعى وتحافظ على جيوشها ومؤسسات الدولة الوطنية، وتحذر امتداد النيران لدول أخرى.

تتكاتف جهود الشعوب والنخب فى الدول التى أصابتها شروخ لمحاولة إعادة بناء مؤسسات الدولة. 

أن يكون الحل السورى وطنيًا خالصًا، وهو ما دعت إليه مصر فى بيان وزارة الخارجية، الشعب السورى لتتكاتف جهود كل أبنائه لتدشين عملية سياسية شاملة ذات ملكية وطنية سورية خالصة دون إملاءات أو تدخلات خارجية.

وشددت مصر على دعمها للشعب السوري، لعبور تلك المرحلة الدقيقة من تاريخه، بما يفسح المجال أمام مشاركة كل السوريين فى رسم المستقبل وإعادة بناء مؤسسات الدولة السورية الشقيقة.

حفظ الله مصر وسوريا والوطن العربى ورزق شعوبنا الوعى الكافى لعبور التحديات.