بروفايل
محمود درويش وحياة المعنى

د.عزة بدر
أحب الحياة حتى آخر قطرة، وواجه الموت أكثر من مرة ولفت أنظار العالم إلى قضية بلاده شعرًا ونثرًا.
إنه محمود درويش الشاعر الفلسطينى الذى أضاف فصلًا مهمًا فى الشعر العربى هو محبة الحياة.
فهو القائل: «على هذا الأرض/ سيدة الأرض/ ما يستحق الحياة» وكتب اسم قريته «البروة» على شاهد قبره، وقد رفض الاحتلال الإسرائيلى عودته إليها حيًا وميتًا!
لكن شاعرنا نقش فى أشعاره كل أسماء الحنين لبلاده معلنا جدارة الأوطان بالحرية، وجدارة الإنسان بأن يعيش حياة العدل والحق فاستقطر شاعرنا نبض الحياة من تفاصيل يومه بل ومن لحظاته الأخيرة فيقول فى كتابه «أثر الفراشة»: إذا قيل لى ستموت هنا فى المساء/ فماذا ستفعل فى ما تبقى من الوقت؟/ أنظر فى ساعة اليد/ أشرب كأس عصير/ وأقضم تفاحة/ وأطيل التأمل فى نملة وجدت رزقها/ ثم أنظر فى ساعة اليد/ مازال ثمة وقت لأحلق ذقنى/ وأغطس فى الماء/ أهجس/ لابد من زينة للكتابة/ فليكن الثوب أزرق/ أجلس حتى الظهيرة حيا إلى مكتبى.
وفى مقالة له بعنوان: «آخرة مرة/ أول مرة» يصف معلقته «الجدارية» والتى خصص لها ديوانا كاملا: حين كتبت «الجدارية» استبد بى هاجس نهاية أخرى، لن أحيا لأكتب عملا آخر، لذلك سميته «جدارية»، لأنه قد يكون عملى الأخير، الذى يلخص تجربتى فى الكتابة، ولأنه نشيد مديح للحياة، ومادام قد كُتب فإن عليه أن ينسى قصته، وإدراكه أن الموت عذاب الأحياء، ومادمت قد عشت مرة أخرى، فإن علىّ أن أتمرد على كتابى هذا، وأن أحب الحياة أكثر، وأحبكم أكثر.
إنه فى جداريته يُخلِّد غدا أفضل، ويرسم إشراقة يوم جديد فيقول: كأننى قد مت قبل الآن.. / أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أننى/ أمضى إلى مالست أعرف، ربما/ ما أريد/ سأصير يوما ما أريد.
وكانت رحلة حياته الحقيقية إلى المعنى، لا يهمه فيها تجسيد الجسم إلا بقدر إتمام المعنى، والحصول عليه مكتملا، فلا طالما عذَّبه الغياب، وهو حى حاضر بالجسد والروح فيقول: سأصير يوما طائرا، وأسل من عدمى/ وجودى، كلما احترق الجناحان / اقتربت من الحقيقة وانبعثت من / الرماد، أنا حوار الحالمين، عزفت / عن جسدى وعن نفسى لأكمل / رحلتى الأولى إلى المعنى / فأحرقنى / وغاب.. أنا الغياب، أنا السماوى / الطريد / سأصير يوما ما أريد.
.. ولقد تأثر شاعرنا بالثقافة المصرية فهو أحد أبنائها كما صرح دائما وفى «الجدارية» ما يجسد هذا التأثر: «هزمتك يا موت الفنون جميعها / هزمتك يا موت الأغانى فى بلاد / الرافدين، مسلة المصرى، مقبرة الفراعنة / النقوش على حجارة معبد هزمتك / وانتصرت، وأفلت من كمائنك / الخلود فاصنع بنا / واصنع بنفسك ما تريد»
.. وتأثر درويش أيضا بمعانى الأسماء ورموزها، فلها فى شعره دلالة عميقة، وتقديس الاسم عادة مصرية قديمة، فكان كشط اسم الملك أو الفرعون يعنى ألا تتعرف الروح على صاحبها، وهى أقصى عقوبة يلحقها ملك بآخر، فإذا كشط اسمه من على تابوته تضيع روحه فى الفراغ، ولا تتعرف الروح على صاحبها، بهذه الثقافة المصرية فى التاريخ المصرى القديم تأثر شاعرنا فتراه يقول: «هذا هو اسمك / قالت امرأة / وغابت فى ممر بياضها / هذا هو اسمك / فاضغط اسمك جيدا / لا تختلف معه على حرف / ولا تعبأ برايات القبائل / كن صديقًا لاسمك الأفقى / جربه مع الأحياء والموتى / ودربه على النطق الصحيح برفقة الغرباء / واكتبه على / إحدى صخور الكهف / يا اسمى:
سوف تكبر حين أكبر / سوف تحملنى وأحملك / الغريب أخ الغريب».
محمود درويش هو الذى كشف سر الجدارة بالحياة عندما قال عن غزة: «تحيط خاصرتها بالألغام، وتنفجر، لا هو موت، ولا هو انتحار، إنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة، لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة فى الدفاع عن بقائها، وفى استنزاف العدو».
سيبقى شعر درويش مديحا فى الحياة، أسلوبا فى البقاء، والدفاع عن الأرض، فرسالته الشعرية رسالة ذات نزعة كونية، وأصبح صوت كل الذين يناضلون فى سبيل حريتهم وبقائهم.