
إيهاب كامل
صوت الشارع
فى فيلم «خرج ولم يعد» وقف عطية «يحيى الفخراني» يصرخ بصوت عالٍ: «جايلك، جايلك يا أحمد يا عدوية»، باعتباره رمزًا فى ذلك الوقت للفوضى وطغيان العشوائية وتراجع الأصالة التى تاهت وسط الزحام، كان ذلك إنذارًا أطلقه المخرج محمد خان قبل أربعة عقود، لكنه بدا إنذارًا خاطئا مقارنة بما نعيشه اليوم، فالآن وجب أن نطلق كل آلات التنبيه والتحذير فى مواجهة ظاهرة «المهرجانات» التى غزت حياتنا، مثلما غزا التوك توك شوارعنا.
أينما ذهبت تلاحقك الأغانى، فلا حاجة إلى جهاز راديو، من ميكروباص مزدحم يصرخ فيه مطرب مهرجانات، إلى قهوة بلدى لا يزال صاحبها يسمع أم كلثوم كأنها تذكير خافت بزمن آخر.. بين هذا وذاك يتأرجح مزاج الناس، خليط من الحنين إلى رومانسية الصوت العذب، والصخب الذى يفرض نفسه كقدر لا مهرب منه، وربما لا نملك إلا أن نضحك فى سرّنا ونقول: «هى دى بقى الفوضى الخلاقة».
وفى مواجهة هذا الصخب اليومي، يظل الفن الكلاسيكى صامدًا، حاملًا رسالته الخالدة التى تهذب الروح وترتقى بالوجدان.. لقد جاءت أنشودة الفن التى شدا بها محمد عبدالوهاب، وبلغت ذروتها بصوت ليلى مراد، لتكون بمثابة بيان إنسانى خالد عن رسالة الفن، ودوره فى تهذيب الروح وارتقاء الوجدان، ففى قولها: «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها» تتجلى صورة الفن كضوء يبدد عتمة الحياة، وكزينة تُغرى العيون وتفتح أبواب الأمل، وهكذا يصبح الفن، فى هذا «المانفستو»، أكثر من مجرد متعة عابرة، إنه رسالة راقية تغذى الذوق العام، وتهذب السلوك، وتفتح أمام الإنسان آفاقًا من السمو والجمال، فالفنان الحقيقى لا يسعى وراء الشهرة وحدها، بل يترك أثرًا خالدًا يتجاوز حدود اللحظة ليبقى مع الزمن.
لم يعد الشاب يسمع الأغنية ليتسلى، بل أصبح يتبنى حركات مؤديها، وملابسهم، وحتى نظرتهم إلى العالم باختصار تحولوا إلى أيقونات، هنا لم يعد الخطر مقتصرا على الذوق الفني، بل امتد ليصوغ أنماط سلوك وقيمًا جديدة، بما يجعل من الثقافة الشعبية قوة موجهة للسلوك الاجتماعي.
الأثر الأعمق للمهرجانات لا يكمن فى موسيقاها فقط، لكن فى خلق لغة جديدة أصبحت جزءا من الحياة اليومية، عبارات مثل: «إخواتي»، «يازميلى»، «مافيا»، خرجت من الأغانى لتستقر فى كلام الشباب، ثم انتقلت إلى السوشيال ميديا كـ»تريندات»، حتى صارت تعبيرات جماعية عن المزاج العام، ويكفى أن نتذكر كيف انتشر تعبير «ملوك السطوح» حتى صار عنوانا لمرحلة كاملة، هكذا نرى أن المهرجانات لم تكتفِ بتمثيل الواقع، بل أعادت صياغته لغويًا وثقافيًا.
لعل أخطر ما تكشفه ظاهرة المهرجانات- والغائب عنا- هو انهيار سلطة المثقف بالمعنى الذى تحدث عنه الفيلسوف الايطالى «انطونيو جرامشي»، فالمثقف الذى كان يُنظر إليه بوصفه حامل الوعى والذوق والقدوة، فقد مكانته أمام طوفان الأغنية الشعبية الجديدة- إذا صح التعبير-، هنا لم يعد المركز يفرض معاييره على الهامش، بل العكس تماما.. الهامش هو الذى تحول إلى متن، فارضا لغته وإيقاعه وقيمه على الجميع، وبذلك تهاوت الهيمنة الثقافية التى تحدث عنها جرامشي، لتفسح المجال لهيمنة من نوع آخر، صاعدة من قلب الشارع، لا تعترف بالذوق الكلاسيكى ولا برموز النخبة، بل بصوت صاخب يعلن أن السلطة الرمزية انتقلت من المثقف إلى مطرب المهرجان، وإذا مددنا خط جرامشى على استقامته، لأمكننا القول إن مطربى المهرجانات من أمثال عنبة وبندق وحمو بيكا وماندو العالمى قد تحولوا بغير قصد إلى مثقفين عضويين هم أبناء طبقتهم الشعبية، خرجوا من الأزقة، يحملون لغتها وقاموسها وإيقاعها، ويعيدون بثها فى صورة موسيقى صاخبة تجتاح المجال العام، لم يعودوا مجرد مغنين للهامش، صاروا صوتا عضويا يعبّر عن طبقته ويفرض وجوده على المركز، فى انقلاب كامل على تعريف المثقف التقليدي.
من هنا تتجاوز المهرجانات حدود الغناء لتصير ظاهرة ثقافية واجتماعية.. إنها تعبير عن تحولات عميقة فى المجتمع، عن صعود الهامش إلى الصدارة، عن ضياع المرجعيات القديمة، وعن تبدل القيم.. وبينما يراها البعض انحطاطًا للذوق، يراها آخرون صوتًا أصيلًا للواقع بلا رتوش، بكل ما فيه من صخب وتناقضات.
من ليلى مراد إلى شاكوش، ومن عبدالوهاب إلى كابونجا، مشينا رحلة طويلة من النغم إلى الضجيج، قد نرفض، قد نسخر، لكننا لا نملك إنكار الحقيقة: المهرجانات أصبحت قدرًا يلاحقنا أينما ذهبنا، فهل هى فوضى خلاقة، أم مجرد فوضى بلا خلاص؟
رحم الله المخرج محمد خان، لو كان بيننا اليوم ورأى ما يفعله مطربو المهرجانات فى أذن المستمع، وشاهد كليب مهرجان «تشكيل عصابى» لشواحه وحلقولو لصرخ من أعماقه كما كان يصرخ أبطاله على الشاشة، ثم أدار الكاميرا نحو الجمهور قائلا: «جايلك يا عنبة.. جايلك».