من عبور السفن إلى قيادة سلاسل الإمداد
الموانئ المصرية تتربع على الخريطة العالمية

نيفين صبرى
تعيش مصر فى السنوات الأخيرة نقلة نوعية غير مسبوقة فى قطاع الموانئ والنقل البحرى، مدفوعة برؤية استراتيجية طموح تقودها الدولة نحو التحول إلى مركز لوجستى وتجارى عالمى.
هذا التحول لم يعد مجرد طموح على الورق، بل أصبح واقعًا ملموسًا تشهده الأرصفة، والمناطق اللوجستية، وشبكات النقل، والمراكز التجارية المتصلة بالموانئ المصرية التى أصبحت اليوم شرايين حقيقية لحركة التجارة العالمية.
الموقع الجغرافى الفريد الذى تتمتع به مصر بين البحرين الأحمر والمتوسط، ومعبر قناة السويس الحيوى، منحها ميزة تنافسية لا تضاهى، لكن ما يحدث حاليًا هو استغلال هذا الموقع بشكل علمى ومنهجى، عبر تطوير البنية التحتية، والارتقاء بكفاءة التشغيل، وتوسيع نطاق الربط بين الموانئ والمناطق الإنتاجية، فى إطار استراتيجية متكاملة تُنفذ بخطى واثقة حتى عام 2030.
أرقام الأداء الأخيرة للموانئ المصرية، تعكس حجم الإنجاز الذى تحقق على الأرض، فقد شهدت موانئ البلاد زيادات غير مسبوقة فى معدلات تداول البضائع والحاويات خلال عام 2024 وبداية 2025، وهو ما يعد مؤشرًا واضحًا على نجاح الدولة فى إعادة تموضعها كلاعب محورى فى حركة التجارة العالمية.
ففى موانئ البحر الأحمر وحدها، تم تسجيل تداول يزيد على 8.1 مليون طن من البضائع خلال عام واحد، بنسبة نمو تفوق 26% مقارنة بالعام السابق، وحققت الموانئ نموًا فى الصادرات بلغ نحو 31.7%، إلى جانب قفزة كبيرة فى معدلات الواردات، فى ظل تحسن كبير فى عمليات المناولة وسرعة الإفراج.
أما ميناء العين السخنة، فحقق رقمًا غير مسبوق فى تاريخه، حيث تم تداول نحو 285 ألف حاوية مكافئة فى الربع الأول من عام 2025 فقط، متجاوزًا المستهدف بنسبة 26%، وتعد هذه الأرقام خير دليل على زيادة القدرة التشغيلية والتنافسية للموانئ المصرية، واستجابتها السريعة لمتطلبات الأسواق الإقليمية والعالمية.
شبكة موانئ مترابطة ومحاور استراتيجية للنقل
لم تعد الموانئ المصرية، مجرد نقاط بحرية لاستقبال السفن وتفريغ البضائع، بل أصبحت اليوم جزءًا من منظومة وطنية شاملة تربط البحر بالبر، والإنتاج بالتصدير، والداخل بالخارج، فالدولة المصرية أطلقت مجموعة من المحاور الاستراتيجية التى تربط الموانئ بالمناطق الصناعية والزراعية، مثل محور «السخنة– الإسكندرية»، و«سفاجا– قنا»، و«العريش– طابا»، مما يعزز من كفاءة النقل ويخفض من تكاليف التشغيل والوقت.
كما يشهد قطاع السكك الحديدية تطورًا موازيًا، مع تنفيذ مشروع القطار الكهربائى السريع الذى سيشكل العمود الفقرى لنقل البضائع من الموانئ إلى مراكز الإنتاج والتصدير، وهو ما يربط الموانئ المصرية بكفاءة أعلى وبطرق أكثر استدامة وحداثة.
مشروعات لوجستية تعزز التكامل الاقتصادى
استكمالًا لمنظومة التطوير، أطلقت الدولة عددًا من المشروعات النوعية فى محيط الموانئ، لتحويلها إلى مراكز لوجستية متكاملة، قادرة على تقديم خدمات القيمة المضافة، وتسهيل حركة التجارة والصادرات.
من بين هذه المشروعات، المنطقة اللوجستية المتكاملة فى ميناء سفاجا، والتى صممت لتكون مركزًا حديثًا لتجميع وتخزين وتوزيع البضائع، مرتبطة بشبكة السكك الحديدية والطرق السريعة، كما يتم إنشاء مركز عالمى لتداول وتخزين الحبوب فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ما يعزز من مكانة مصر كمحور إقليمى للأمن الغذائى وتجارة السلع الزراعية.
هذه المناطق، لم تعد فقط مراكز خدمية، بل أصبحت عناصر جذب استثمارى واستراتيجى، تسهم فى زيادة الصادرات، وتنويع الخدمات، وجعل مصر محطة لوجستية لا غنى عنها فى سلاسل الإمداد العالمية.
موانئ ذكية وعمليات أكثر كفاءة
ضمن استراتيجية الدولة للتحول الرقمى، تم إدخال أنظمة تشغيل ذكية على جميع الموانئ، مما أدى إلى تقليص زمن الإجراءات، ورفع كفاءة المناولة، وتحسين تجربة المستثمرين والمصدرين.
النافذة البحرية الموحدة، أصبحت أحد أبرز إنجازات هذا التحول، إذ تتيح إنجاز الإجراءات الجمركية والتفتيشية إلكترونيًا، من خلال منصة رقمية موحدة، اختصرت الزمن وخفضت التكلفة وسهلت العمل على المستثمرين.
كما جرى استخدام أنظمة التفتيش الذكى، والمراقبة بالكاميرات المتطورة، والربط الإلكترونى بين الجهات، بالإضافة إلى استخدام الطاقة المتجددة فى تشغيل الأرصفة والمنشآت، لتقليل الانبعاثات الكربونية والتحول إلى موانئ خضراء، بما يتماشى مع المعايير الدولية فى حماية البيئة.
رؤية مصرية.. من بوابات بحرية إلى محاور تنموية
تعمل الدولة وفق رؤية واضحة لتحويل الموانئ المصرية إلى عناصر فعالة فى تحقيق التنمية الشاملة، فمن خلال استراتيجية تمتد حتى عام 2030، تنفذ الدولة خطة لتكامل الموانئ البحرية والجافة والداخلية، وتحقيق ربط متكامل بين سلاسل الإنتاج والتوزيع.
فى هذا الصدد، وجه السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، بضرورة تسريع خطوات التحول إلى موانئ ذكية ولوجستية، وتعزيز قدرة مصر على المنافسة فى أسواق التصدير العالمية، مع التأكيد على دعم القطاع الخاص المحلى والدولى فى الدخول كمشارك رئيسى فى إدارة وتشغيل وتطوير الموانئ.
هذه الرؤية، لا تقتصر فقط على البنية التحتية، بل تشمل إعداد الكوادر البشرية، وتطوير البيئة التشريعية، وتوفير التسهيلات اللازمة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، بما يعزز من مكانة مصر على خريطة التجارة الدولية.
شهادات دولية وتقدير إقليمى
التحول الكبير فى قطاع الموانئ، لم يمر مرور الكرام فى المجتمع الدولي، إذ أشادت مؤسسات النقل البحرى والمنظمات الاقتصادية بتطور أداء الموانئ المصرية، وأكد خبراء النقل الدولى أن مصر تخطو بخطى ثابتة نحو التحول إلى مركز لوجستى عالمى، مشيرين إلى التحسن الملموس فى مؤشرات الأداء، خاصة فى موانئ الإسكندرية والسخنة وشرق بورسعيد.
كما أثنوا على جودة الخدمات الجديدة، وتنوع المشروعات، واستحداث مراكز لتداول الحبوب، وربط الموانئ بالمناطق الإنتاجية، إلى جانب التوسع فى استخدام التكنولوجيا والرقمنة.
فى ظل التغيرات التى طرأت على سلاسل الإمداد العالمية، أصبحت مصر أكثر قدرة على تقديم حلول لوجستية ذكية، بفضل موقعها الفريد، وتحديث بنيتها التحتية، وتكامل منظومتها النقلية، موانئ مصر لم تعد فقط نقاط عبور، بل أصبحت أدوات استراتيجية لإعادة رسم خريطة التجارة العالمية، وربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.
ومع اكتمال تنفيذ مشروعات الموانئ الجديدة، والمناطق الاقتصادية، والمراكز اللوجستية، ستتحول مصر إلى عقدة مركزية فى التجارة الدولية، وعنوان للتكامل الذكى بين النقل والإنتاج، والخدمات والاستثمار.