الترعة الجافة تحولت لسور دفاعى وجعلت المزرعة الصينية فخًا للدبابات
لا شك أن حرب أكتوبر معجزة البشر فى العصر الحديث لذا لم يكن النصر مجرّد تفوق فى السلاح أو انضباط فى التنفيذ بل كان فى جوهره انتصارًا للفكر وللجرأة التى امتزجت بالعلم، وللرجال الذين امتلكوا الشجاعة ليكسروا القاعدة حين كان كسرها هو الطريق الوحيد للنجاة.
فوسط رائحة البارود وغبار المعركة وطائر الاستشهاد الذى يحلق فى سماء المعركة لم تكن الدبابة ولا الهاون ولا الخندق الجاف مجرد أدوات قتال بل تحولت إلى رموز لفكر جديد ووعى ميدانى مختلف.. رجال القوات المسلحة أبطال غيّروا المعادلة فى لحظات مصيرية.
دبابتان تُدفنان أمام المشاة لا خلفهم، وسرية هاون تُقاتل على الحدّ الأول لا بعده، وترعة جافة تتحوّل إلى خندق مضاد للدبابات. كلها كانت قرارات على حافة المغامرة، لكنها صنعت الفارق، وأثبتت أن الإبداع فى الميدان ليس خروجًا عن القاعدة، بل تأسيس لقاعدة جديدة.
وفى أفكار صنعت النصر يعود اللواء دكتور محمد زكى الألفى بطل أكتوبر وأستاذ الاستراتيجية بالأكاديمية العسكرية بالذاكرة أكثر من نصف قرن ليحكى عن عبقرية المقاتل المصرى.
فيقول: فى إعادة هيكلة القوات ألحقوا كتيبة دبابات بكتائب المشاة لتعمل معها كتجهيز معاونة. القاعدة التكتيكية التقليدية أن تكون مواقع الدبابات خلف المشاة بحوالى 500 متر لتأمينهم وتقديم الدعم النارى. لكن قائد سرية الدبابات، النقيب محمد زكى (من الإسكندرية)، كسر هذه القاعدة فى عمليته. انضم معنا فى ليلة 6 أكتوبر ليكون فى موقعه صباح 7 أكتوبر، فبدلًا من البقاء خلف التبة اختار النزول إلى الميل الأمامى أمام المشاة؛ إجراء تكتيكى مخالف لكنه مدروس.
كان مع نقيب محمد زكى دبابات، من بينها دبابة مُعدة بلمحة هندسية تعمل كبلدوزر. حفروا مواضع للدبابتين وسوّوا تمويها بشكل محكم بحيث يصعب على العدو تمييزهما مع بزوغ الصباح. عندما دفعت قوات العدو بمفرزة مؤلفة من دبابتين تحركتا لإخراجهما من مدى أسلحتنا، تصرّف محمد زكى بحنكة: طلب عدم إطلاق النار من وحدتنا وانتظر حتى دنو الدبابتين إلى مدى مدفعيته. ثم استهدف الدبابة الخلفية أولًا: خطوة ذكية لأن إصابة الخلفية تخفى تدمّرها عن المهاجم الأمامى وتمنع الارتباك الفورى، ثم أعاد توجيه المدفع إلى الدبابة الأمامية وأصابها أيضًا. تسبّب هذا الترتيب فى تدمير الدبابتين وإحداث أثر معنوى هائل فى صفوف العدو. خلّفت هذه المبادرة انطباعًا واضحًا عن فكر تكتيكى جديد وشجاعة عالية فى التنفيذ.
سرية الهاون 82 ملم
يبتسم اللواء الألفى ليقول: المعروف أن تعمل سرية الهاون 82 ملم عادة خلف صفوف المشاة لأن مدى الهاون (نحو 2.5 كيلومتر) يتطلب وجودها بمسافة آمنة عن الحدّ الأمامى. رغم ذلك، خالف النقيب أحمد عادل المهدى — رحمه الله — التكتيك المعتاد، ووضع مدافع سرّيته قرب الخط الأمامى، حتى أمام الحدّ الأمامى نفسه. اعترض ضباط وأفراد من موقعه محذِّرين من خطر التعرض لنيرانٍ مباشرة، لكن النقيب أصرّ على موقعه الجديد، وأدار نيران الهاون بكفاءة فائقة مستفيدًا من أقصى مدى ممكن للعيار، ما سمح له بضرب أهداف العدو وإلحاق خسائر به دون أن يتعرّض أحد من عناصره لأذى يذكر. هذه التجربة جسّدت أيضًا فكرًا تكتيكيًا مغايرًا يعتمد على الجرأة والتكيّف مع ظروف المعركة.
استخدام الخندق الجاف كحاجز مضاد للدبابات
تحف ذاكرة اللواء الألفى عشرات الأفكار والقصص التكتيكية غير النمطية وأبطالها رجال الجيش المصرى العظام فيقول المقدم أحمد إسماعيل عطية، رغم أنه لم يكن أركان حرب تميّز كمقاتل ذى رؤية عملية.
عند إعداد رأس الكوبرى النهائى اختار بنفسه موقعًا أماميًّا مُدعمًا بترعة جافة تُعرف محليًا باسم «المزرعة الصينية» (قرية الجلاء). الفكرة التكتيكية كانت تحويل هذه الترعة إلى مانع مضاد للدبابات: بدلًا من اعتبار الترعة عائقًا فقط، استُخدمت كحاجز يُجبر المركبات المعادية على النزول فيه ويفقدها القدرة على التسلق بسهولة.
وقعت أمام الموقع مركبة M113 إسرائيلية مسرعة حاولت اختراق الخط. عندما نزلت المركبة فى الترعة الجافة لم تتمكّن من تسلق الجانب الحاد، فاضطرت للسير عرضيًا باحثة عن مخرج. وبسبب ضيق فتحة فى أحد الممرّات (هويس) توقفت المركبة وخرج منها عناصرها فقبض جنودنا على طاقمها.
انتهت المواجهة بأسر عشرة من المشاة المرافقين للمركبة. هذا الاستخدام الذكى للموقع الجاف أثبت فعاليته فى إيقاع خسائر بأدوات العدو وإضفاء نوع من الدفاع الحصين باستخدام تضاريس المنطقة.






