الأربعاء 26 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مواسير الصرف القديمة

خدعة ابتكارية شتتنا بها العدو وجعلناه يتعامل معها كمدافع حقيقية

الوليد عبدالحكم
الوليد عبدالحكم

جلس الأديب الفرنسى الأشهر، وصاحب التأثير الأعمق فى الأدب العالمى، فيكتور هوجو ليكتب عبارته الخالدة: «لا شىء فى العالم أقوى من فكرة حان وقتها». ولو بحثنا فى صفحات التاريخ عن تطبيق عملى لهذه المقولة، لوجدنا أن حرب أكتوبر 1973 تجسدها بأبهى صورها. فالأفكار المبدعة التى وُلِدت فى تلك الأيام كانت تأتى فى توقيتها المناسب، لتتحول من مجرد خواطر إلى أسلحة حاسمة غيرت مجريات المعركة وأهدت مصر والعرب نصرًا مؤزرًا.



وفى هذا السياق، نقترب لنستمع إلى شهادة حية من الرائد الوليد عبدالحكم العادل، أحد أبطال القوات الخاصة المصرية الذى خاض ميادين القتال فى اليمن، وشارك فى حرب يونيو 1967، ثم عاش سنوات حرب الاستنزاف، وصولًا إلى معركة الشرف فى حرب أكتوبر المجيدة. رجلٌ عاش الميدان بجسده وروحه، ودفع ثمن البطولة إصابة بالغة تسببت فى نسبة عجز كبيرة، لكنه ظلّ شاهدًا حيًا على معانى الإرادة والفداء.

يقول الرائد الوليد عبدالحكم العادل:

«أكرمنى الله بالإصابة فى حرب أكتوبر، وتركت الخدمة بعدها بسبب العجز، لكن بعد العمر الطويل والتجربة المريرة أستطيع أن أقول بثقة إن هذا البلد، وهذا الشعب، رغم ظروفه القاسية وإمكاناته المحدودة، قادر على أن يحقق ما لا يخطر على البال. نحن أدهشنا أنفسنا قبل أن ندهش العالم فى 1973. فاجأنا أنفسنا قبل أن نفاجئ الآخرين. أدهشنا بما قدمناه من أداء، وما أبديناه من فكر وعبقرية.

كانت البساطة هى سر الصعوبة، وكان جوهر العبقرية فى أننا لم نلجأ للحلول التقليدية. ما يُسمّى اليوم التفكير خارج الصندوق هو ما طبقناه عمليًا دون أن نسمع هذه العبارة من قبل. نحن لم نبحث عن الطرق المألوفة، لأن الطرق المألوفة لم تكن لتقودنا إلى النصر. لجأنا إلى البدائل غير المتوقعة، إلى أفكار قد تبدو صغيرة لكنها غيّرت مسار التاريخ».

ويضيف بلهجة حاسمة:

«الإرادة هى المفتاح، أن تعرف أن إمكانياتك محدودة، ولكنك رغم ذلك تُصرّ على تنفيذ المهمة والوصول إلى الهدف. هذا هو جوهر العبرة المستخلصة من الحرب. أن نستعيد وعينا، وأن نثق فى أنفسنا، وأن ندرك أن هذا الشعب قادر على أن يصنع المستحيل.

أنا شخصيًا، بعد الحرب، ظللت فى حالة دهشة من أنفسنا. كيف لم ندرك قبل أكتوبر أننا قادرون على هذا الأداء الفذ؟ كيف سمحنا لأنفسنا أن نشعر أننا أقل من غيرنا، بينما نحن فى الحقيقة أقوى بكثير وأقدر بكثير.

ويتابع بطل أكتوبر حديثه مستحضرًا صورًا من قلب المعركة:

«كل مقاتل كان يؤدى دوره بإخلاص فى موقعه المحدود، لكن هذه الأدوار الصغيرة تراكمت لتصنع المعجزة. عشرات الآلاف من الأفكار المبتكرة تجمعت، لتصبح فى النهاية عوامل نصر متكاملة. وأذكر من هذه الأفكار البسيطة، التى كان لها أثر كبير، فكرة إنشاء موقع وهمى لخداع العدو وتشتيت نيرانه.

أحضرنا مواسير صرف قديمة، وأخرى خاصة بالمياه، وقمنا بتمويهها بعناية حتى بدت وكأنها مدافع حقيقية. لم نكتفِ بذلك، بل كنا بين الحين والآخر نُطلق محدثات صوت ودخانا لنُوهم العدو بأن هذه المدافع تعمل بالفعل. فكانت الطائرات الإسرائيلية تتسابق لتدمير هذه المواسير الوهمية، وتُسقط عليها القذائف وكأنها تضرب أهدافًا حقيقية، بينما مواقعنا الحقيقية تعمل بأمان فى أماكن أخرى. كانت الفكرة فى ظاهرها بسيطة للغاية، لكنها عبقرية فى أثرها، إذ جعلت العدو يبدد نيرانه وجهده ووقته فى أماكن لا قيمة لها، بينما نواصل نحن أداء مهامنا الأساسية بفاعلية».

ثم يختم بلهجة يغلب عليها الشجن والصدق الإنسانى العميق:

«أمنيتى التى لم تتحقق أن أعود من الميدان ملفوفًا بعلم مصر شهيدًا. ربما يظن البعض أن هذه أمنية قاسية، لكنها عندنا كانت غاية الشرف والسمو، نحن نحسد من سبقونا من الشهداء، لأنهم اختارهم الله ليكونوا فى مقام الكرامة الأسمى.

ولأن الله لم يكتب لى أن أنال هذه الشهادة، أوصيت أهلى أنه حين يحين أجلى أن يُكفَّن جسدى بعلم مصر، لا بالكفن العادى. فهذا الوطن هو الذى حاربنا لأجله، وقدمنا أرواحنا فداءً له، ابتغاءً لرضوان الله وحبًا فى ترابه وما زلت إلى اليوم أشعر أننى مدين لهذا التراب، وأن تكفينى بعلم بلادى هو أصدق ختام لمسيرة حياتى.