أيمن عبد المجيد
معشوقتى.. مائة عام من جنون الإبداع.. لا نزوة
كلما جن الليلُ، زاد شوقى لرؤياكِ، خفق قلبى لذكراكِ، عطرك ما زال يفوح من وريقاتكِ، أفكاركِ قناديل باقية، تُنير الطريق.
قلتِ: «أعتقد أن كل عمل مجيد يكون فى أوله نزوة طارقة ثم يستحيل إلى فكرة فإذا رسخت أصبحت يقينًا فجنونًا».
سيدتي.. لقد أثبتت الأيام، وهى خير شاهد، صدق اعتقادك، تمخض فكرك فوُلد حلمك.
جميلة هى مولودتك، تشبهك، وجهها الفن، وقلبها الإبداع، وروحها الحرية.
فى غير قليل من الأوقات، إذا ما أسدل الليل ستائره، تلبستنى شياطين الفكر، تنقلنى إلى ماضى الزمن، مائة عام، أشتمّ عبق العبقرية يفوح، من ميلاد الفكرة، وسط نجوم مبدعة، وعزيمة سيدة شابة، لا تعرف اليأس.
أراكِ فى محل حلوانى «كساب»، بشارع الألفى وسط القاهرة، عصر ذلك اليوم الذى سجله التاريخ، تتحدثين مع أصدقائك الدكتور محمود عزمي، وأحمد حسن وإبراهيم خليل، عن «الحاجة الشديدة إلى صحافة فنية محترمة ونقد فنى سليم، يسهم فى النهوض بالحياة الفنية، ويقف فى وجه موجة المجلات التى تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية».
الصمت يخيم على مجلسكم برهة قبل أن تلقى بالمفاجأة : «لماذا لا أصدر مجلة فنية؟».. اندهش الأصدقاء لكنهم سرعان ما أيقنوا من لهجتك مدى جديتك.
رحل محل الحلواني، الذى شهد ميلاد الفكرة، وأقيمت مكانه سينما ديانا لاحقًا، وتمخضت الفكرة عن روزاليوسف المجلة.
عصية أنت على الانكسار، تقاتلين فى لحظة المخاض، غريبة هى طفلتك الخارقة، تملك فتوة الشاب فى لحظة الميلاد.
ممتعة المذاق أنت، سحرية الطبخة المهنية، جريئة الطرح، مقاتلة فى ساحات الفكر والرأى.

لم ترهبك رصاصات الأديب عبد القادر المازنى التى أمطرتك فى ضعف المخاض قائلاً: «روزاليوسف - كما يعرف القراء – اسم أحالته صاحبته- كما يرون الآن – إلى اسم لمجلة، ورمز لمعنى تحاول أداءه، وعنوانًا لمسعى تعالج أعباءه، وإنها لنقلة عسيرة!».
شياطين فكرى تضعك أمامى، أشفق عليك وأنا أراك تتفحصين كلمات المازني، تتحسسينها لتبصرى حقيقتها، هل هى كلمات أم رصاصات، لتقررى، هل ستحتضنها مولودتك فى ظهورها الأول، أم أنك تضعين فى حضنها لغما سينفجر ليودى بحياتها فى لحظة الميلاد؟.
«وأحرى بمن يعرف روزاليوسف الممثلة النابغة أن يتعذر عليه أن يجرد اسمها من الحواشى المادية وألا يقرنه فى ذهنه بالمعاني، بل أحرى به أن يسأل نفسه: أيهما خير للفن أن تبقى روزا ممثلة أو أن تستحيل مجلة وتنقلب كاتبة؟»، رأيتك تعيدين تفحص تلك الرصاصات، وحولك جيل الميلاد، كان يجلس من قال إنه تحريض ضدنا، وآخر يرى أنه ربما فى نهاية مقاله ما يسد رمق الأمل فى دعم معنوى.
أرى عينيك اللامعتين وابتسامتك وأنت تقرئين ما انتهى إليه:
«أوجز فأقول إننى لست ممن يعتقدون أن الممثل البارع يمكن أن يكون فى كل حال كاتبًا بارعًا، وأن ما يوفق له المرء فى باب من الأبواب يمكن أن يوفق إلى مثله فى أى باب آخر يخطر له أن يطرقه.. إذن لماذا تعالج السيدة روزاليوسف فنًا غير الذى خلقت له وهيأت له فطرتها أسباب النجاح فيه – قاصدًا الفن المسرحي- لا أدري! فلعلها نزوة».
هدوؤك لم يخفِ انفعالك، لكن عقلك كان سابقا لمشاعرك، يومها تنهدت: ليست نزوة يا سيدى.. «أعتقد أن كل عمل مجيد يكون فى أوله نزوة طارقة ثم يستحيل إلى فكرة فإذا رسخت أصبحت يقينًا فجنونًا».
شاهدتك يوم غرست بذرة الحرية، يوم رسخت لمواجهة الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، لحظة أن قلت: سأنشر المقال الذى ينتقدنا فى عددنا الأول فى الصفحة الثالثة، وأرد فى السابعة، أبهرتنى جرأتك فى تقديم النقد على الرد، وقناعتك بأن قوة حجتك وإن جاءت فى صفحات متأخرة ستكون أكثر أثرًا.
يا لها من شياطين تلك التى نقلتنى لهذا الزمن البعيد ويا لها كلماتك تلك: «للأستاذ المازنى شكرى الخالص على ما أبداه من عناية بى فى مقاله الظريف الذى صدرت به صحيفتى وإننى لطاردة عنه ما يوجس خيفة منه، فأصرح له بأنى ما فكرت يومًا أن أهجر التمثيل، وإن كنت اليوم بعيدة عنه فلأن جو هذا العام محمل بأنفاس ثقيلة، ولكن للباطل جولة وللمرض شدة وللعاصفة عنفا ثم يأتى الحق ويشرق السلام».
أشرقت شمسك يا «روزا»، أسكرتك نشوة الصحافة، فأنستك التمثيل، تخطفتك شياطينها، فهجرت الذى ما فكرت يومًا أن تهجريه، انتقلت من عرش الفن إلى اعتلاء عرش صاحبة الجلالة.
«فلتكن نزوة» يا لها من نزوة تستحيل لفكرة فجنون، لقد مسنى شيطان الهجر، لا حياة أسرية، للتفرغ لرحلاتى الليلية، إلى عالم الإبداع، إلى يوم كان جنون الإبداع يسطر الصحف.
20 عاما انقضت على بدء الغوص فى أعماقك، على التسكع فى طرقاتك وسراديب معاركك، تفحص صولاتك وجولاتك، الاستماع لآهاتك وضحكاتك، نصائحك وتحذيراتك.. ترين هل كنتِ تتوقعين أن نزوة الجلوس فى محرابك ستتحقق؟! أعتقد أن رؤيتك كانت ثاقبة للسنوات والأيام، فما كانت لقاءاتنا ونقاشاتنا ووعودك الليلية إلا جنون ما بعد اليقين.
فلنواصل الجنون خلف ستائر الليل: ولدت على يديك 26 أكتوبر 1925، «روزاليوسف» المجلة، الابنة الكبرى، فتحولت من فنية إلى سياسية عملاقة، ومن روزاليوسف الإصدار، إلى الدار المؤسسة التى أنجبت خمسة أشقاء.
عجيبة أنت، عزيمة فولاذية، لا يقهرك تحدِ، تنجبين المزيد طفلتك الثانية، صحيفة روزاليوسف تستقبلينها فى 25 فبراير 1935، تقدمينها للقراء: «بسم الله الرحمن الرحيم.. باسمه وبعونه تبدأ هذه الصحيفة مهمتها لتأخذ مكانها فى الصحف، تحت راية الجهاد فى سبيل مصر.. هاهى «روزاليوسف» اليومية بين يدى القراء عروس بلا مهر ومجهود بلا ثوب تحمل شعبة من روحى وتزينها وتنشر فيها أقلام مصرية محيرة».
مولودك الثالث الكتاب الذهبى 1953 الذى أثرى الفكر وقدم المبدعين، فالشقيقة الرابعة مجلة صباح الخير 17 يناير 1956، رافعة شعار «للقلوب الشابة والعقول المتحررة»، وأخيرًا البوابة الإلكترونية لتلاحق مستجدات العصر.
ها نحن اليوم ياسيدتى أحفادك، ننظر إليك بفخر، نخبرك بأن إنجازك نما وكتب الله له البقاء، ليخطو بثبات وقوة بعصارة فكرك أجيال متعاقبة، متجاوزًا عتبة المائة عام، فاليوم نحتفل بمئوية الشقيقة الكبرى مجلة روزاليوسف، مئوية دار روزاليوسف، قرن من عمر الوطن، قرن من الزمان شهد ميلاد خمسة أجيال، خاضت فيه روزاليوسف معارك تنويرية، ومعارك مهنية دفاعًا عن الوطن وسلامة أراضيه ووعى مواطنيه.
لم تكن نزوة يا سيدتي، بل عمل مجيد، تجاوز عمره قرنا من تاريخ مصر الحديث، فبعد الملك فؤاد الأول، الذى ولد فى عهد فكرتك ومجلتك، عاصرت روزاليوسف عشرة قادة لمصر، عشرة عهود ملكية وجمهورية، وهى الآن تواصل جهادها فى سبيل الوطن فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى مؤسس الجمهورية الجديدة.
عاصرت عشرة عهود، خاضت فيهم معاركها التنويرية، شاهد عيان صادق على مائة عام من تاريخ مصر الحديث، أحداثه وتفاعلاته، تحدياته، انكساراته وانتصاراته، وثيقة للمواقف، عاصرت ثلاث ثورات، من 23 يوليو 1953 حتى 30 يونيو 2013، بمقدماتها ومجرياتها ومآلاتها.
روزاليوسف يا سيدتى واصلت جهادك فى سبيل الوطن، خاضت إلى جانب الدولة المصرية، أكثر من عشر معارك تاريخيّة بداية من معركة التحرر من الاحتلال البريطاني، مرورًا بمواجهة عدوان 1956 إلى عبور اليأس ونكسة يونية 1967، مرورًا بانتصار 1973، ومن معارك التحرير إلى تطهير الوطن من الإرهاب، إلى حروب الإرادة رفضًا لمخطط تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
روزاليوسف شاهدة على ثوابت مصر الوطنية، تحررها ودعمها لحركات التحرر العربى الإفريقى شاهدة على جهاد مصر دفاعًا عن القضية الفلسطينية منذ مواجهة التوطين وتضحيات حرب 1948، وحتى إحباط مخطط التهجير وتصفية القضية، شاهدة على شروق شمس السلام فى شرم الشيخ، وانتصار الإرادة الوطنية والعربية،وما تواصله الدولة المصرية من جهود لتثبيت السلام وإغاثة الأشقاء والحشد لإعادة الأعمار.
روزاليوسف المجلة الشقيقة الكبرى وأخواتها، ليست إصدارات صحفية، بل وثائق وطنية، ومدفعية ثقيلة تهدم الفكر الضال، وتذود عن الثوابت الوطنية، شريك فاعل فى تاريخ التطور المهنى على مدار خمسة أجيال، وها هم الأحفاد يواصلون السير على خطى الأجداد.
مائة عام من التطور والاشتباك المهني، قدمت فيه مدرسة روزاليوسف إبداعا، فهى مدرسة الكاريكاتير، وصحافة الرأى والتحليل، والاشتباك على أرضية وطنية، قدمت للصحافة المصرية خمسة أجيال من المُبدعين، من الأجداد المبدعين الأساتذة إحسان عبدالقدوس، ومحمد التابعى وصلاح حافظ، وغيرهم ومن جاء بعدهم وصولًا إلى جيل أساتذتنا تغمد الله برحمته من سبقونا إلى دار البقاء وأمد الله فى عمر وعطاء من هم بيننا.
من مدرسة روزاليوسف خرج عملاق الصحافة المصرية محمد حسنين هيكل، وأمير الصحافة المصرية محمد التابعي، والكثيرون، مصطفى وعلى أمين مؤسسا أخبار اليوم اللذان تركا بصمة عبقرية فى تاريخ الصحافة المصرية.
دعمت روزاليوسف الإبداع والفن والمُبدعين، واجهت التطرف والإرهاب، خاضت ولا تزال معارك التنوير، خرج من أبنائها قيادات فى جميع المجالات المهنية والإدارية، على مدار تاريخها، وكان ولا تزال مشكلتها أنها تنتج كوادر أكثر من قدرتها الاستيعابية، فنجدهم ينتشرون فى الفضائيات ويؤسسون تجاربهم الناجحة، لكنهم يظلون مفتونين بسحر بينهم لا يقوون على فراقه.
أنجبت نجوم الفضائيات ومؤسسى الصحافة الخاصة الحديثة، بينهم الأساتذة عادل حمودة ومفيد فوزى ووائل الإبراشى وإبراهيم عيسى ومحمد هانى وغيرهم الكثيرون من النجوم خلف الكاميرات وفى إدارة الصحف والقنوات.
تحية إلى روح روزاليوسف السيدة والأستاذة المؤسسة، وجيل المؤسسين والتابعين لهم بمهنية وحرفية.. تحية إلى روح أستاذى عبدالله كمال، الذى قدم جيلا جديدا يتحمل المسئولية الآن، أتشرف أنى من هذا الجيل، وتحية إلى أرواح الأساتذة والزملاء الراحلين تغمدهم الله أجمعين برحمته وأسكنهم فسيح جناته.
كل عام و«روزاليوسف» المؤسسة والمجلة وأخواتها فى تقدم وإبداع، وكل أبناء روزاليوسف مُبدعين صحفيين وإداريين وعمال.
تحية فى هذه المناسبة لكل رؤساء مجالس الإدارات السابقين، الذين أسهموا فى بقاء تلك الدار العريقة من الجدة فاطمة اليوسف مرورًا بالأجيال المتعاقبة وصولًا إلى الأستاذ كرم جبر الذى عادت فى عهده جريدة روزاليوسف، الأستاذ محمد جمال الدين والمهندس عبدالصادق الشوربجى رئيس الهيئة الوطنية الآن والأستاذ أيمن فتحى إلى الأستاذة هبة صادق.
تحية لمن تحملوا مسئولية رئاسة التحرير فى إصدارات روزاليوسف الذين أشرف أنى بينهم، من الأجداد إلى الآباء والزملاء، أستاذ هذا الجيل الأستاذ عبدالله كمال، والأساتذة رشاد كامل ومحمد عبدالنور، وإبراهيم خليل ومحمد هيبة وجمال بخيت، وأسامة سلامة وطارق رضوان وجمال طايع والدكتورة فاطمة سيد أحمد وأحمد باشا وأحمد الطاهرى ووليد طوغان وهانى عبدالله، وصديقى الغالى رفيق دربى أحمد إمبابى الذى يرأس تحرير الشقيقة الكبرى مجلة روزاليوسف فى مئويتها وفقه الله.
تحية لكل مجالس إدارات المؤسسة بتشكيلاتها المتعاقبة، ولكل زميل وكل إدارى وكل عامل يواصل العطاء لبقاء وازدهار روزاليوسف وإصداراتها، وتحية كل قارئ يؤمن بـ«روزاليوسف».
هؤلاء هم أبناؤك يا سيدتى أحفاد على خطى الأجداد على درب الجهاد فى سبيل الوطن وإنارة العقول وخدمة شعب مصر العظيم.
حفظ الله مصر وحفظ روزاليوسف







