الخميس 18 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أقدم جريدة عسكرية عرفتها البشرية

حين نتأمل بدايات الكتابة والتوثيق فى الحضارة المصرية القديمة نكتشف أن  المصريين لم يكونوا مجرد بناة للأهرام والمعابد، لكن كانوا أيضًا رواد الكلمة المسئولة والفكر الموثق.



ففى الوقت الذى كانت فيه الشعوب الأخرى تتحسس طريقها نحو معرفة الحِرف، كان المصرى القديم قد جعل من الكلمة وسيلةً للتأريخ، وأداةً للتوجيه، وصوتًا للسلطة والدولة والمجتمع.

نشأت الصحافة فى مصر القديمة بوصفها نشاطًا توثيقيًا وإخباريًا يتجاوز مجرد النقش والزخرفة؛ فقد كانت الكلمة عند المصرى القديم وثيقة رسمية  ورسالة إعلامية وأداة تعبئة وتنوير فالنقوش التى خلدت المعارك الكبرى والمراسيم التى نُقشت على جدران المعابد، كانت تمثل شكلًا بدائيًا من أشكال الصحافة، تُمارس فيها وظائف الإعلام والاتصال والإقناع بمفهومها العصري.

أدرك الفراعنة مبكرا أهمية إعلام الجند والشعب بانتصارات الدولة وقراراتها ومشروعاتها، فكانت النصوص الملكية التى تُنشر على الحجر أو ورق البردى تحمل فى مضمونها ما يمكن اعتباره أخبارًا رسمية وتقارير ميدانية وتعليمات سياسية ودينية، وكان كُتّاب القصور والمعابد هم بمثابة محررين وصحفيين بمعايير ذلك الزمن، يتولون صياغة الأحداث وتدوينها، بما يعكس فكر الدولة وهيبتها.

ومن اللافت أن تلك «الصحافة الفرعونية» لم تكن محصورة فى الشئون  الملكية والدينية فقط، بل امتدت لتشمل الأنشطة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، مما يدل على أن المصرى القديم كان واعيًا لأهمية توثيق الحدث، ونقل المعلومة بدقة، وحفظها للأجيال القادمة.

وهكذا، قبل أن تعرف المطبعة وقبل أن تُولد الصحافة بمعناها الحديث بآلاف السنين، كانت مصر تُصدر أولى صحفها على جدران المعابد، وتنقش على الأحجار تاريخ أمة تصنع مجدها بالكلمة كما تصنعه بالسيف.

ولا نبالغ إذا قلنا إن مصر عرفت الصحافة العسكرية منذ أكثر من خمسة آلاف عام أى قبل أن يعرفها العالم بقرون طويلة، فمنذ فجر التاريخ أدرك المصرى القديم أهمية الكلمة فى توثيق البطولة ونقل رسالة المقاتل فكانت الكلمة سلاحًا مكمّلًا للسيف، ووسيلة لتخليد مجد الجند والملوك على مر العصور.

تشير صفحات التاريخ إلى أن أقدم صحيفة عسكرية عرفتها البشرية، كانت منقوشة على الحجر، محفورة على وجهين وقد أشرف على تحريرها كاتب يُدعى «بتاح»، أحد أوائل من مارسوا مهنة الصحافة العسكرية بمفهومها البدائى.

كانت هذه الصحيفة توزّع على قادة الجيش وعدد من حكام الأقاليم، وبلغ عدد نسخها نحو مائة نسخة تقريبًا، وهو رقم هائل بمعايير ذلك الزمان.

وأبدع الفنان المصرى القديم فى تصميم صدر الصحيفة، فنحت صورة الملك «مينا» -نارمر- وهو يقف شامخًا بين صفوف الأسرى الذين طُرحت رءوسهم عند قدميه، فى مشهد رمزى يجسد النصر والعزة والقوة.

أما محتوى الصحيفة فقد تضمن أنباء المعارك وذكريات القادة وسير الجنود، فى مزيج يعكس روح الانتماء والانضباط والبطولة التى ميّزت جيش مصر منذ فجر التاريخ.

ويُعد القائد المصرى «وونى» أحد رجال الملك «بيبى الأول» من ملوك الأسرة السادسة، أول من يمكن أن نطلق عليه وصف «الصحفى العسكري»، بالمعنى الحديث للكلمة، إذ دوّن بنفسه أخبار معاركه ومهامه القتالية على جدران المعابد والأحجار؛ لتبقى شاهدًا على بطولاته.

ومن أبرز ما سجله، حملته العسكرية على الحيثيين، التى وصف فيها بدقة مسار العمليات، والظروف التى واجهها، ونتائج المعركة، فى أسلوب يجمع بين التوثيق العسكري، والدقة الصحفية.

وسار على دربه عدد كبير من ملوك مصر وقادتهم، فكانت جدران المعابد والقلاع فى طيبة وممفيس وهليوبوليس وأبيدوس صفحات مفتوحة تسرد حكايات الانتصارات، وتخلّد أسماء القادة والأبطال الذين سطروا ملاحم خالدة فى تاريخ الأمة.

ولم يتوقف التطور عند النقوش الحجرية، بل اتسع ليشمل استخدام جلود الحيوانات وورق البردي، مما أتاح للصحافة العسكرية آنذاك مرونة أكبر فى التوثيق والتداول، لتتحول الكلمة من نقشٍ خالد إلى وثيقة تُقرأ وتُتداول بين القادة والمقاتلين.

ثم طويت تلك الصفحة المجيدة مع انتهاء عصر الأسرات وبدء الاحتلال الأجنبى لمصر، لتتراجع الصحافة العسكرية مؤقتًا مع انكسار الدولة المصرية القديمة، قبل أن تعود فى العصر الحديث بوجه جديد وروح متجددة، تستمد من تاريخها القديم العزم والإلهام.

فعادت الكلمة العسكرية المصرية لتستعيد مجدها، على أيدى محررين يعرفون معنى الانضباط، فى ميدان واحد هدفه الدفاع عن الوطن وكشف الحقيقة وصون الوعى العام وليقف الفرعون العظيم ليسجل سجلا جديدا بماء الذهب، يكتب فى أولى صفحاته عاشت مصر عزيزة بابنها تجمع  أكبر تراث عن حضارة واحدة، فى متحف واحد، ليكون هو المتحف الأكبر فى العالم؛ إنه المتحف المصرى الكبير.