أيمن عبد المجيد
كنز مصر الذى لا ينضب
الحضارة والتاريخ وحدهما كنز لا يمكن شراؤه بالمال، ولا صناعته بأحدث تكنولوجيا العصر، تتفرد بها الدولة الضاربة بجذورها فى عُمق مسيرة الإنسانية، وما أندرها!
مصر أول دولة نظامية مكتملة الأركان عرفتها البشرية، على ضفاف نيلها نبتت حضارتها، ونمت وأظلت فروعها الكون، ومن أرضها أشرقت شمس التوحيد والمعرفة والقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية والآداب والفنون.
لا تنشأ الحضارات ولا تستحدث من العدم، فهى عمل بشرى متراكم الخبرات ممتد الجينات، نسيج من القيم والأخلاق والعلوم والفنون والابتكارات والإنجازات، بطلها الإنسان المُبدع المُنجز، لذلك فإن كنز مصر الثمين الذى لا ينضب هو شعبها العظيم.
«لم أتسبب فى موت أحد، ولم أشتهِ زوجة جارى، لم أدنس نفسى، ولم أكذب، لم أسرق، ولم أشهد زورًا، لم أملأ قلبى حقدًا» هكذا يقول المصرى القديم فى كتاب الموتى.
«لم أكن سببًا فى دموع إنسان ولم أمارس الظلم، لم ألوث مياه النيل، ولم أتعالَ على الآخرين بسبب منصبى». حضارة عمادها الأخلاق والقيم.
ولم يقتصر الأمر على حرمة الإنسان وحقوقه، بل احترم المصرى القديم الحياة بكل مكوناتها من البيئة ممثلة فى النيل شريان الحياة إلى الحيوانات والنباتات:
«لم أُهمل نباتًا حتى يموت عطشًا، قد أطعمت الجائع وسقيت العطشان».
قمة الإيمان ومنظومة القيم الأخلاقية، التى تحترم مكونات الحياة، التى لم تصل إليها بعد أرقى المجتمعات الإنسانية المعاصرة، ومع كل هذا يخرج جاهل بتاريخ المصريين وصحيح الدين، متحدثا بالباطل عن حضارة مصر القديمة واصفًا الآثار والتراث الحضارى بالأصنام!
قوة مصر الحضارية، أهم مكونات قدرتها الشاملة، تتفرد بها عن كل القوى العالمية، سبعة آلاف عام من الجينات الممتدة، من الأحفاد إلى الأجداد، تظهر عظمتها عندما يشعر العقل الجمعى بخطر داهم، أو مشروع قومى يلتف خلفه، فى القرارات المصيرية يستحضر الشعب جينات الحضارة المصرية.
الأمثلة المعاصرة كثيرة، فى 30 يونيو 2013، استحضر الشعب جينات حضارته، وحافظ على هويته الوطنية، وفى 2014 التف خلف قيادته موّل ودعّم إنجاز المشروع القومى الأول «مجرى قناة السويس الجديدة»، ووقف ظهيرًا قويًا خلف الدولة المصرية لإحباط مخطط التهجير داعمًا الشعب الفلسطينى الشقيق للصمود على أرضه.
حالة التوحد الوطنى، والاحتفاء الشعبى والرسمى بالمتحف المصرى الكبير، تعكس ذلك الوعى الجمعى، الناجم عن جينات الحضارة، تلك الحالة التى تؤكد أن الحاضر يصافح الماضى لبناء المستقبل.
المواطن المصرى، كنز مصر الذى لا يفنى، فمنذ فجر التاريخ ومصر تنجب أجيالًا.. قادة عظماء، يتحملون المسئولية فى لحظات تاريخيّة حرجة، يسخرهم الله لتنفيذ إرادته سبحانه لحفظ مصر، لتظل بلد الأمن والأمان.
من مينا موحد القطرين مرورًا بالملك سقنن رع أول قائد شهيد فى معارك تحرير الوطن من الهكسوس إلى نجله أحمس المُنتصر، جيشنا قهر التتار وهزم الصليبيين، وهزم بقيادة الشهيد محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام الصهاينة، وصولًا إلى حارس الهوية الوطنية الرئيس عبدالفتاح السيسى، فهو من قاد ولا يزال معركة التصدى لمحاولات الظلاميين طمس الهوية الوطنية، وهو من أحيا العديد من المشاريع القومية التى كانت متعثرة لأسباب اقتصادية وسياسية، وفى القلب منها توشكى والمتحف المصرى الكبير.
بدأت مصر التفكير فى إقامة المتحف عام 1992، فى عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك رحمه الله، بطرح من فاروق حسنى وزير الثقافة حينها، وتم وضع حجر الأساس فى 2002، لكنه تعثر عقب أحداث 2011، ليظل معطلا حتى اتخذ الرئيس عبدالفتاح السيسى قرارًا بالعمل على استكماله ليتم إنجازه فى السنوات السبع الأخيرة.
هذا الإنجاز الحضارى متعدد المكاسب للدولة المصرية:
أولًا: المكسب الحضارى
افتتاح المتحف المصرى، أعاد وضع الحضارة المصرية، على أجندة وسائل الإعلام العالمية، بما يعزز الصورة الذهنية الإيجابية عن مصر أم الدنيا وإسهاماتها فى خدمة البشرية، ولذلك انعكاس إيجابى مُباشر على القدرة الشاملة للدولة ونفوذها فى المحافل الدولية.
ثانيًا: المكاسب الاقتصادية
يمثل المتحف المصرى الكبير موردًا دائمًا للاقتصاد المصرى، بما يحققه من قيمة مضافة لقطاع السياحة، فهو الأكبر عالميًا بين المتاحف التى تحتضن حضارة واحدة، نصف مليون متر، يتسع لعرض مائة ألف قطعة أثرية من مصر القديمة.
المتحف الذى بات المقصد السياحى الأهم فى مصر، خطوة راسخة على طريق تحقيق هدف الـ30 مليون سائح بحلول 2030، بهدف قريب المدى 5 ملايين سائح خلال العام الأول للافتتاح بمتوسط 15 ألف زائر يوميًا.
الثلاثاء كان اليوم الأول الذى يستقبل فيه المتحف زواره بعد حفل الافتتاح الرسمى، وسجل اليوم الأول نحو 18 ألف زائر، بينهم 11 ألف أجنبيًا، وهذا مؤشر بالغ الأهمية على تحقيق الجدوى الاقتصادية بإذن الله.
النمو السياحى يعنى رفع نسب تشغيل 90 مهنة، بداية من الفلاح الذى ينتج مستلزمات الطعام، مرورًا بأصحاب الحرف الذين يعملون فى تشييد الفنادق والغرف السياحية والعاملين فى قطاع السياحة، إلى أصحاب المنازل والمتاجر فى محيط المتحف والمقاصد السياحية.
العوائد الدولارية من قطاع السياحة، تنعكس على رفع القدرة الشرائية للجنيه المصرى، فى مواجهة الدولار، ومن ثم تحسن الدخل الحقيقى للمواطن، وتوفير مستلزمات الاستيراد، ودعم الميزانية العامة لتعزيز ما تقدمه الدولة من خدمات.
مع استقرار الأوضاع والحفاظ على حالة السلم والأمن فى المنطقة، تستعيد قناة السويس عافيتها لتعود لدخلها الذى بلغ 10 مليارات دولار سنويًا، وبدأت مؤشرات ذلك بعد مؤتمر السلام فى شرم الشيخ، ونهوض السياحة المورد الأهم للموازنة ومصدر النقد الأجنبى، يسهم فى تعاظم قدرة الاقتصاد الوطنى تدريجيًا، فالمتحف مورد دخل مستدام.
ثالثًا: مكاسب الهوية الوطنية
يحقق المتحف مكاسب فى تعميق الهوية الوطنية فى نفوس الأطفال ورواد المتحف من طلاب المدارس والجامعات، ينمو الشعور الوطنى والحضارى لدى الأجيال المتعاقبة بالفخر بعظمة الأجداد وآثارهم المبهرة وريادتهم فى مختلف مناحى العلوم والفنون.
رابعًا: تعزيز الثقة فى الذات والجيل المعاصر
هذا الإنجاز الذى يعد بمثابة هرم رابع، يطل على أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع، يعكس قدرة الجيل المعاصر على البناء على حضارة الأجداد، فها هو الجيل المعاصر يحافظ على حضارة الأجداد ويقدمها بما يليق بها للإنسانية ولبناء الأجيال المقبلة.
وفى حفل الافتتاح تحدثت مصر عن إنجازاتها، المتحف شهادة تثبت قدرة الحاضر على الإنجاز والعاصمة الإدارية والدلتا الجديدة والبنية التحتية، لا يزال شعب مصر محبًا للسلام والبناء والتعمير، ويحتاج بذل الكثير من الجهد لاستعادة أمجاد الأجداد وتحقيق الريادة عالميًا.
خامسًا: رسائل حفل الافتتاح
حمل حفل الافتتاح رسائل بليغة تعكس قوة وقدرة الدولة المصرية المعاصرة وأهمها:
1- مشاركة 79 وفدًا دوليًا فى حفل الافتتاح، بينهم 39 وفدا برئاسة ملوك ورؤساء دول وحكومات، يعكس مكانة مصر وحضارتها، وتنامى قدرتها الدبلوماسية فى عهد الجمهورية الجديدة.
2 - بلد الأمن والسلام، مصر التى كانت مستهدفة منذ عام 2013 بأخطر موجة إرهابية مدعومة من دول خارجية، لإعاقة البناء والتعمير، وكسر الإرادة الشعبية وإسقاط الدولة، وطمس الهوية ، تنعم اليوم -بفضل الله- بأعلى درجات الأمن والاستقرار، تواصل البناء والتعمير وقدمت بيانًا عمليًّا على تمتعها بأعلى درجات الأمن.
فضيوف مصر حضروا فى أمن وسلام، بل وخرجوا لممارسة رياضتهم الصباحية على ممشى أهل مصر المُطل على النيل.. رئيس وزراء هولندا وزوجته.. ورئيس وزراء بلجيكا وزوجته، مارسوا رياضة الجرى فى ممشى أهل مصر والتقط لهم مواطنون صورًا تغنى عن آلاف الكلمات.
وقبل ذلك استضافت مصر قمة السلام بشرم الشيخ بحضور دولى غير مسبوق، وهناك شهد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأن معدلات الأمن فى مصر، تفوق أمريكا، مؤكدًا أن مصر بلد قوى وآمن، قائلًا لصحفية على الطائرة فى طريق العودة: «إنهم فى مصر أقوى مما تتصورين».
ولعل رسائل الأمن والسلام هذه تعزز فرص مصر كوجهة سياحية واستثمارية للملايين حول العالم.
3- مكاسب الترويج السياحى
الترويج للمقاصد السياحية فى الأسواق الدولية، غالبًا ما يكون باهظ التكاليف لأى دولة تستهدف جذب أفواج سياحية.
وما حققته مصر من ترويج مجانى، تتجاوز قيمته الفعلية مليار دولار، فتنظيم حفل الافتتاح ودعوة ملوك ورؤساء العالم بما صاحبهم من وفود إعلامية، وما نشر عن مشاركتهم فضلا عن مراسلي 180 وسيلة إعلامية حول العالم، وما تم بثه ونشره من تقارير وإشادات الصحافة العالمية، يعد مكسبًا عظيمًا للترويج السياحى المصرى لا يقدر بثمن.
4- بدأ الحفل بكلمة فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق، بصفته صاحب فكرة المتحف المصرى الكبير، ليؤكد أن منهج الجمهورية الجديدة للدولة المصرية تاريخ ممتد لا أنظمة حكم تأتى لطمس إيجابيات ما قبلها، بل دولة تعظم العمل الجاد أيًا كان القائم به، وتؤكد أن الأجيال تواصل البناء التراكمى.
5 - كلمة الدكتور مجدى يعقوب تبعث برسالة مفادها أن المصريين القدماء رواد علم الطب، وأن يعقوب ورفاقه أحفاد يسيرون على خطى الأجداد يخدمون الإنسانية دون النظر للنوع أو الدين أو الجنس.
6- عرض العزف المتزامن في العديد من العواصم الأوربية مع العزف بمسرح المتحف الكبير، إشارة إلى احتفاء الإبداع العالمى بالإبداع والحضارة المصرية.
7- عرض المسلات المصرية فى عواصم أوروبية، يشير إلى انتشار أثر الحضارة المصرية وبصمتها فى مختلف عواصم العالم.
8 - مجسم المتحف الذى شارك كل رئيس من الدول التى أسهمت فى البناء بوضع قطعة منه، ثم استكمل الرئيس السيسى القطعة الأخيرة المكملة، التى تمثل مفتاحًا يضىء قاعات العرض المتحفى، رسالة مفادها أن مصر بيدها مفتاح الحضارة التى أضاءت ظلام الإنسانية.
9- عرض إنجازات الدولة الحديثة من برج أيقونى فى العاصمة الإدارية الجديدة إلى قلعة صلاح الدين الأيوبى، ومعابد وكنائس ومساجد من مختلف العصور، وترانيم وتواشيح، رسالة مفادها أن مصر تاريخ ممتد، وحدة وطنية، تتوالى فيها الإنجازات من الماضى للحاضر.
10- فى كلمته كانت رسائل الرئيس عبدالفتاح السيسى بليغة «فروع الماضى تظلل الحاضر»، «ليكن المتحف المصرى الكبير ساحة للحوار وملتقى الإنسانية»، «فصل جديد من تاريخ الحاضر والمستقبل»، «مصر بلد السلام والمحبة».
ولقد شهد العالم لحظات إنسانية، سجلها التاريخ، لملوك وملكات ورؤساء دول وحكومات من قادة العالم فى حضرة الحضارة المصرية، وليس أدل على ذلك من الصور البليغة التى جسدت لحظات انبهار الملكة مارى ملكة الدنمارك بالملك الذهبى توت عنخ آمون وأهرامات مصر الخالدة.
تلك اللحظات التى خلدتها الكاميرات، أكبر شهادة لعظمة الحضارة المصرية، وأكثر تأثيرًا فى الشعوب الغربية من أى حملات ترويجية.
لنا أن نفخر بوطننا ونبذل الجهد والفكر والعرق والدم للحفاظ على أمنه وسلمه، ونتذكر أن هناك الآلاف من أبطال هذا الوطن دفعوا أرواحهم فداءً له وحماية لترابه وأمنه، لنصل لما نحتفى به اليوم من تنمية ورخاء وإنجازات.
لنتذكر أبطال جيش مصر والأجهزة الأمنية للدولة، التى حمت كنوز المتحف المصرى فى ميدان التحرير، يوم عمت الفوضى فى 28 يناير 2011، وحافظت على ما يبهر العالم اليوم وغدًا بالمتحف المصرى الكبير، وبإذن الله مصر آمنة إلى يوم الدين.
علينا بناء وعى أجيالنا المعاصرة والقادمة، بحضارة مصر وقيمها الأخلاقية، وأسسها الإبداعية، التى ألهمت البشرية، فى الطب والهندسة والفلك والموضة والابتكارات والنحت والتحنيط والكيمياء، فكل الآثار التى تبهر العالم اليوم وما تحويه من أسرار، يجب أن يدرس للأجيال لاستنهاض الهمم لاستعادة الريادة المصرية العاملة والمهنية والحرفية.
وليكن المتحف ساحة للحوار والمعرفة وتوطين علم المصريات ومهارات الترميم ودراسة اللغة المصرية القديمة، ليكن متحفًا وجامعة. حقًا مصر بلد السلام والمحبة، خطت أنوار الحكمة، ومنها أشرقت شمس الحضارة، التى لا يزال دفئها ونور علومها تنعم بهما الإنسانية. حضارة دائمة العطاء والبهاء، وستظل مصر آمنة بفضل الله ووعى أبنائها، فها هو الحاضر يصافح الماضى، يدًا بيد لبناء المستقبل.
حفظ الله مصر جيلًا بعد جيل..










