د. أمجد الوكيل
البرنامج النووى المصرى.. عقد من البناء والإنجاز ورؤية لمستقبل آمن
منذ أن أعادت مصر تفعيل برنامجها النووى السلمى عام 2014، وضعت نصب عينيها هدفًا استراتيجيًا واضحًا: امتلاك قدرات نووية سلمية متكاملة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه وتنويع مصادر الطاقة، بما يحقق أمن الطاقة ويعزز مسار التنمية المستدامة وفق رؤية مصر 2030.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت رحلة عمل شاقة ومنظمة قادتها هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء، بدءًا من الإعداد الفنى والتشريعى والتدريبى، وصولًا إلى انطلاق الأعمال الإنشائية بموقع الضبعة النووى، الذى يمثل اليوم نموذجًا متكاملًا للالتزام والانضباط والعمل الوطنى الجاد.
لقد تشرفت بأن أكون جزءًا من هذا المسار منذ بدايته، حيث توليت قيادة المشروع النووى المصرى ومديرًا للمشروع والمفاوض الرئيسى لعقود الضبعة منذ عام 2015 وحتى 14 أغسطس 2017، ثم رئيسًا تنفيذيًا للهيئة حتى ديسمبر من العام ذاته، ثم رئيسًا لمجلس إدارتها حتى يناير 2025، وهى مراحل شهدت العمل المتواصل لتحقيق حلم الأجيال بإقامة أول محطة نووية مصرية على أرض الضبعة. هذا الحلم تجسد فعليًا من خلال سلسلة من الإنجازات الملموسة، بدأت بصب الخرسانة الأولى للوحدة النووية الأولى يوم 20 يوليو 2022, وهو تاريخ فارق فى تاريخ الدولة المصرية، يمثل انتقالها من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ الفعلى والإنشاء، تلتها الوحدة الثانية فى 19 نوفمبر 2022، ثم الوحدة الثالثة فى 3 مايو 2023، وأخيرًا الوحدة الرابعة التى شهدت وضع حجر الأساس فى 23 يناير 2024، فى احتفال مهيب تم بحضور القيادة السياسية فى البلدين عبر تقنية الفيديو كونفرانس، ورئيس مجلس الوزراء، ولفيف من الوزراء والمسئولين بالموقع. كما تُوجت هذه النجاحات الفنية بإنجاز نوعى جديد تمثل فى تركيب مصيدة قلب المفاعل (Core Catcher)، وهى أول وحدة طويلة الأجل تُركب فى المفاعلات النووية المصرية، وقد تم تنفيذها تباعًا فى مواعيد رمزية تحمل دلالات وطنية وتاريخية: للوحدة الأولى فى 6 أكتوبر 2023، والثانية فى 19 نوفمبر 2023، والثالثة فى 6 أكتوبر 2024، والرابعة فى 19 نوفمبر 2024 ليشكل هذا التعاقب إيقاعًا وطنيًا متجددًا يربط الإنجاز النووى بعيد نصر أكتوبر وعيد الطاقة النووية لعامين متتاليين. ويمثل العام الحالى 2025 محطة جديدة على طريق الإنجاز، حيث يتم الاستعداد لتركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى فى 19 نوفمبر 2025، وهو أحد أهم المكونات الرئيسية فى قلب المفاعل النووى والذى استغرق تصنيعه حوالى 40 شهرًا من مايو 2022، ويُعد تركيبه لحظة فارقة فى تاريخ المشروع واحتفالية وطنية كبرى تتزامن مع عيد الطاقة النووية الخامس فى مصر، ذلك العيد الذى كان لى شرف اقتراح فكرته واختيار موعده وإطلاق نسخته الأولى عام 2021 والتى نظمت جميع نسخه تحت رعاية رئاسة الجمهورية وبحضور دولة رئيس مجلس الوزراء. ويحمل هذا الاحتفال هذا العام رمزية مضاعفة، إذ يجسد التقاء الإرادة السياسية بالرؤية العلمية والتنفيذ الهندسى الدقيق، ويرسل رسالة واضحة مفادها أن مصر تدخل فعليًا عصر الطاقة النووية بخطوات ثابتة وثقة كبيرة فى كوادرها الوطنية. إن مشروع محطة الضبعة النووية بسعتها الإجمالية 4800 ميجاوات 4 وحدات من طراز VVER-1200 من الجيل الثالث+، يمثل أحد أهم المشروعات القومية فى تاريخ قطاع الكهرباء المصرى. فهو لا يضيف فقط ما يعادل 7% من إجمالى السعة المركبة على الشبكة القومية للكهرباء، بل يعزز أيضًا استقرار التغذية الكهربية ويقلل من الاعتماد على الوقود الأحفورى، مما يساهم فى توفير أكثر من 7 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعى سنويًا يمكن توجيهها لدعم الصناعة والتصدير وتعظيم العائد الاقتصادى.
كما تسهم المحطة فى خفض الانبعاثات الكربونية بنحو 15 مليون طن سنويًا بما يعادل زراعة 600 مليون شجرة أو توقف 3 ملايين سيارة سنويًا، وهو ما ينسجم تمامًا مع التزامات مصر الدولية فى اتفاق باريس للمناخ ومع خطتها الوطنية للتحول نحو الطاقة النظيفة. ومن ثم، فإن الطاقة النووية تمثل الذراع المكملة للطاقة المتجددة (الشمسية والرياح)، بما يحقق مزيجًا متوازنًا ومستدامًا للطاقة الكهربائية فى مصر.
إن ما تحقق من إنجازات خلال السنوات العشر الماضية لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة رؤية استراتيجية متكاملة، وإصرار على بناء القدرات الوطنية، حيث من المتوقع أن ترتفع نسبة المشاركة المحلية تدريجيًا من 20% فى الوحدة الأولى إلى 35% فى الرابعة، كما تم ويتم تدريب مئات الكوادر المصرية فى أرقى المراكز النووية بالعالم لاكتساب الخبرة فى التشغيل والصيانة وإدارة المفاعلات. واليوم، وتزامنا مع عيد الطاقة النووية الخامس، تدعو التجربة المصرية الناجحة إلى مراجعة استراتيجية الطاقة 2040 لإدخال المزيد من الطاقة النووية ضمن مزيج التوليد، بما يتماشى مع احتياجات النمو الصناعى والعمرانى، ويضمن لأجيال المستقبل أمنًا طاقويًا مستدامًا واقتصادًا قادرًا على المنافسة عالميًا. إن البرنامج النووى المصرى ليس مجرد مشروع كهرباء، بل هو مشروع نهضوى شامل عابر للأجيال يجسد إرادة دولة وقدرتها على الإنجاز، ويعيد لمصر مكانتها كدولة رائدة فى المنطقة فى مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. عضو الجهاز التنفيذى للإشراف على مشروعات إنشاء المحطات النووية لتوليد الكهرباء رئيس هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء سابقا.










