واحة الابداع: الأسير
كريم بركات
كتبها: كريم بركات
يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين. إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة بإرسال مشاركتك من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:
[email protected]
إنه يومٌ عادىّ.. رتيب.. مكرر.. نسخة طبق الأصل من سابقيه ولاحقيه.. يدق الموبايل بنغمة نوكيا الشهيرة فيشعر أنه يغرس مسمارا من الصلب فى رأسه.. يمد يده إلى «الكومود» بحثا عنه ويقربه إلى عينه النصف مفتوحة وكله أمل أن يجده قد أخطأ ودق مبكرا ولو بنصف ساعة ولكنه للأسف يخذله كالعادة ويجد الساعة السابعة وأربع دقائق تماما كما ضبطه.. يتشبث بالأمل الأخير ويضغط زر الغفوة ثم يغمض عينيه سريعا مكملا نومه متظاهرا أن شيئا لم يحدث.. بعد عشر دقائق يشعر أنها لحظة يدق مرة أخرى فيمد يده بسرعة ليسكته لاعنا ذلك الجهاز وإصراره المقيت على إيقاظه تمضى ثوان قليلة يأتيه بعدها صوت إسماعيل الهادئ من خلف باب الحجرة : «شريف».. يتلاشى آخر أمل فى اقتناص دقائق إضافية من النوم ويجيبه بإحباط: صاحى ياريس.
يقوم من السرير بتكاسل وتردد بعد أن يقطع لجسده وعدا،لم ينفذه قط، بأن يمنحه الليلة القادمة مدة أطول من النوم.. يدخل الحمام بخطوات صغيرة متكاسلة يفتح الحنفية ويضم كفيه صانعا تجويفا صغيرا بينهما ويعرضهما لتيار الماء.. يحدق ببلاهة فى الماء الذى يملأ تجويف كفيه ثم يبدأ فى الانسكاب خارجه ثم يفكر أن عمره فى هذا البلد رتيب جاف يتسرب منه تماما مثل هذا الماء.
يغسل وجهه عدة مرات ليزيل آثار النوم ويتوضأ ثم يخرج. يبادره إسماعيل بأن علاء تحت المنزل بانتظارهما.. يرتدى ملابسه على عجل حتى أنه يكمل غلق أزرار القميص على السلم وينزل مسرعا ويتجاهل جارتهم البدينة التى تضع صندوق القمامة أمام باب شقتها.. يُحيّى علاء ويلقى بنفسه على الكرسى الخلفى للسيارة التى تنطلق مسرعة.. كل متر تقطعه السيارة تجاه الشركة يزيد من توتره وانقباضه.. يتمتم «لماذا ينتهى الليل بهذه السرعة الرهيبة ولماذا لا ينتهى النهار بالسرعة ذاتها؟!».
طريقة علاء فى القيادة تزيد من توتره وانزعاجه فهو يتلوى على الطريق يمنة ويسرى كالأفعى ثم يقف فجأة وينطلق فجأة ويوزع لعناته وسبابه على كل السيارات من حوله.. ولكن آيات سورة مريم بصوت السديس بسجعها الحنون الذى ينتهى بالياء والألف يملأ السيارة سكينة تهدئ من توتره قليلا.
ما تلبث أن تنقطع التلاوة فى الثامنة من أجل إذاعة النشرة.. سمو الملك يفتتح مهرجان الجنادرية ويهنئ أمريكا (الدولة الصديقة!!) على تغيير قانون الضمان الاجتماعي.. المبعوث الأمريكى فى اجتماعه مع نتنياهو يؤكد أن أمن إسرائيل يعد الأولوية الأولى للحكومة الأمريكية!!.. سمو ولى العهد ونائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام (كيف يوفق سُمُوّه بين كل هذه المهام؟؟) يفتتح بعض المشاريع فى العاصمة.
وهم أخيرا يصلون إلى الشركة.. يوزع نظرة حيادية وابتسامة باهتة على الجميع ويتبادلون تحية الصباح بآلية دون أن يقصد أحدهم ما يقوله فعلا.. يدلف سريعا إلى مكتبه.. يلقى التحية على أشرف زميله ويجلس خلف مكتبه.. يرفع عينيه إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل ليجدها ما زالت الثامنة وعشر دقائق فيهتف فى إحباط: «يا إلهى ما زال أمامى اثنتى عشرة ساعة على الأقل قبل أخرج من هذا المكان الكئيب كالمعتقل».
اللوحات بريشة الفنان عفت حسنى