الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رسالة من عنق الزجاجة

رسالة من عنق الزجاجة
رسالة من عنق الزجاجة




إيهاب كامل يكتب:


أنا من الجيل الذى ولد فى عنق الزجاجة، واستمع إلى وعود الخروج من النفق سنوات طويلة، ثم اكتشف متأخرًا أن حياته كلها كانت ولا تزال وسوف تظل «فى الكازوزة»، فجلس يمزمز الأوهام ويتسلى بعالم الفقاقيع الفارغة.. جيلى مثل أجيال كثيرة من الأجيال الضائعة، رسم حلمه باتساع السماء، لكنه اكتشف سريعًا حقارة الخدعة، فبادلهم الإهمال بالإهمال، ولم يقاتل من أجل أحلام بعيدة المنال، فقد أدرك بخبرة الحياة فى عنق الزجاجة أن كل شىء أصلى راح وانقضى، واللى جاى خلاص مضى، فركب المنحنى الهابط، وراح يتزحلق على درابزين الخيبة الكبرى، فى مجتمع الضياع والتبعية والتوهان، مجتمع الارخص والأسوأ والأفسد، وفى مجتمع كهذا كان لا بد أن ننبذ الحروب القومية والقضايا الكبرى التى أصبحت سلعة لثراء كبار اللصوص والتجار، ونتشاجر معًا طمعًا فى اقتناء «حمادة العويم» و«فانوس كرومبو»، جيلنا سمع عن العروبة والقومية.. عن ريادة مصر، و 7 آلاف سنة حضارة، بصراعات المثقفين حول الحداثة، والأصالة والمعاصرة، والهوية والصحوة الكبرى، بينما كنا نهجر الذوق والجمال، ونغرق فى العشوائية والفوضى والقبح، والدولة التى صارت أشلاء رفعت شعار «ودن من طين وأخرى من عجين».. بينما كانت يدها من حديد تضرب بها كل رأس أينعت، أو فكرت، ولهذا كانت أعظم ثمار هذه الدولة إنجازات سيقف أمامها التاريخ طويلًا ليتأمل كيف تشكلت وصارت جزءًا من حياتنا المعاصرة، مثل الدويقة ومنشية ناصر وبيجام والبنزينة وناهيا، وعشرات ومئات من المناطق العشوائية التى حاصرت العاصمة، بما فيه من أمجاد معمارية للفاطميين والمماليك، والقاهرة الخديوية التى أرادها الخديو إسماعيل قطعة من أوروبا، وقصور جاردن ستى وأرستقراطية الاستعمار الانجليزى.. كل ظالم دخل هذه الأرض حكم وتحكم فى أهلها، لكنه ترك فى النهاية شيئًا جميلاً نتباهى به إلى جوار ظلمه وبطشه، إلا سنوات حياتنا، فقد كانت قفارًا، كلها ضرب.. ضرب، حتى بتنا نتمنى التخفف من الضرب ببعض الشتيمة! لقد قفزنا فوق أسوار الحداثة، وما بعدها، ودخلنا عصر المولات، والاستهلاك على أحدث صيحة، امتلكنا الموبايلات المبهرة، وأصبحنا نغيرها مع كل إعلان جديد، ونتنافس فى أجمل رنة، ولا بأس من دعاء روش، أو وضع الآذان، وليس بالضرورة أن تصلى عندما تسمعه، فالحياة صارت كاجوال، والدين أصبح «كووول جدا»، والشيوخ يقدمون الألش إلى جوار الفتوى، والحياة صارت مجرد كلمات نعد بها أيامنا على مواقع التواصل الاجتماعى، حيث كل شىء سهل: الثقافة والشجاعة، والادعاء بأى استايل تريده لنفسك، بل يمكنك أن تختار اسمك وصورتك، وتاريخك، والإيقاع سريع والأدرينالين حسب الطلب، والكل يلهث فى محاولة البحث عن أشياء لا يعرفها ، لايهمه كثيرا الفرق بين «الحقيقى» و«المفربك»، فحينما نكتشف الكذبة تكون هناك غيرها المئات والمئات، فاستهلك القصة ولا تفكر فى حقيقتها قبل أن ترميها، هناك غيرها، يمكنك أن تحب وأن تحارب، وأن تتفلسف، وأن تعظ، بأقل تكلفة، فقط أن تكتب ما تفكر فيه، وإذا لم تكن لديك قدرة على التفكير، أدخل أى موقع واختار الكلمات والصور التى تعجبك، وارزعها على حسابك بقوة، لتكون ماتريد فيلسوفا أو شاعرا أو حكيما أو متمردا على كل شىء، وبعدها ابدأ معركة اصطياد اللايك والكومنت، لأن كثرتهما كفيلة بجعل أكاذيبك وسرقاتك واستعاراتك أكثر قوة من الحقيقة التى ضاعت فى رمال السقوط الناعمة، كما ضاعت شجاعة عنترة ابن شداد فى بحر الرمال مرة، وأمام كثرة جنود الملك النعمان مرة أخرى.. فالكثرة منذ ايام عنترة حتى ايامنا تغلب الشجاعة، فلا تحدثنى عن العقل والحق.. يكفى أن تنظر إلى عداد الترافيك وتكتب اسماء الأبطال اللائقين بمرحلة الكذب العظيم، إن هذا العصر الذى تعثرت به حياتنا أنتج لنا كائنات تجديدة لا يمكن فهمها إلا إذا عاد «دارون»، وشرع فى تحديث كتابة «أصل الأنواع» ليضم إليه هذه السلاسات الجديدة التى اختصرت ملايين السنين من التطور، فهى تطوع جيناتها لتتأقلم مع المتطلبات الجديدة لكل مرحلة، تستطيع أن تقول الشىء اليوم وتدافع عنه باستماتة ثم تدافع عن عكسه فى اليوم التالى «عادى جدا» البوصلة اتغيرت، والكاذبون يعتمدون على ضعف ذاكرة الناس التى صارت هشة وسطحية مثل ذاكرة الأسماك، لقد تآكلت ذاكرة الناس فى بلادى من كثرة المشاغل والهموم، حتى وصلوا إلى مرحلة «اللابوريا» رافعين شعارهم الحشراتى: «لاصوت يعلو فوق صوت أكل العيش» الآن، ومن داخل عنق الزجاجة أعتذر للنعامة التى اتهمناها طويلا بأنها كانت تضع رأسها فى الرمال، لتوهم نفسها بأنها ابتعدت عن خطر الصياد الذى يطاردها، بينما اكتشف العلماء العادلون أن النعامة تفعل ذلك للاطمئنان على بيضها ومستقبل أجيالها التالية، وليس هروبًا، كما فعلنا نحن، لذلك عندما عرفت بخبر القبض على بعض الصبية دون العشرين بتهمة قلب نظام الحكم، ضحكت حتى البكاء، وضحكت على النعامة، كما ضحكت علينا الأمم.