فى الذكرى الـ 26 لرحيله يحيى حقى الكاتب النبيل
 
                            روزاليوسف اليومية
 
                                                      
                                                      
                                                       تمر هذه الأيام الذكرى السادسة والعشرين على رحيل يحيى حقى «7 يناير 1905- 9 ديسمبر 1992»
الذى كان من ابرز سمات شخصيته عزوفه عن الشهرة عكس أبناء جيله من أمثال: توفيق الحكيم وحسين فوزى وزكى نجيب محمود الذين كانوا يحرصون على الكتابة فى المنابر الثقافية والأدبية الكبيرة ذات الصوت المسموع، لكن يحيى حقى قرر أن يعيش فى الظل ويبتعد عن الأضواء، فكان يحرص على أن ينشر أعماله فى صحف ومجلات محدودة الانتشار ؛لأنه يحب أن يحتفظ بسلام روحه ولا يطيق الضجيج والأضواء.
ورغم انتمائه إلى أسرة تركية،لكنه كان عاشقاً للعرب وللغة العربية. وكان يمد يده إلى الأجيال الجديدة من الأدباء والمثقفين، وأعطاهم الكثير من وقته دون ضجر، وقرأ أعمالهم بصبر شديد .وكتب مقدمات لأعمالهم تفيض بالحنان والفهم والذكاء.
وقد غضب الرئيس عبد الناصر على يحيى حقى بسبب حضوره لجلسة تعرض فيها عبد الناصر هجوم شديد من قبل المحقق الكبير محمود شاكر والمفكر الإسلامى الشيخ أحمد حسن الباقورى، ورغم أن حقى لم يخض فى الحديث كان مستمعاً فقط إلا أن عبدالناصر استشاط غيظاً على موقفه السلبى، واستطاع ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك بجهد استثنائى أن ينقذ يحيى حقى من الاستغناء عنه والاكتفاء بنقله من رئاسته لمصلحة الفنون إلى العمل كمستشار لدار الكتب ورئاسة تحرير مجلة «المجلة» الذى جعل منها جامعة للثقافة الأصيلة، وهو صاحب الفضل الأول فى اكتشاف الدكتور جمال حمدان الذى كتب مقالاته الأولى على صفحات المجلة ولفتت الأنظار إلى نبوغه وعبقريته.
ويحيى حقى صاحب الرواية الشهيرة «قنديل أم هاشم» التى ظهرت عام 1944 التى كان من الممكن أن تبقى فى الظل لفترة طويلة فلا يلتفت إليها أحد لولا أن ناقداً كبيراً أحس بقيمتها وأدرك أهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطة وأسلوب جديد قائم على الإيجاز والتركيز وهذا الناقد هو سيد قطب «1906- 1966» الذى لمع اسمه فى أربعينيات القرن الماضى كأكبر نقاد الأدب وكانت كلمته مسموعة وموثوقاً بها فى صفوف الأدباء.والرواية تطرح سؤالاً مهماً مفاده: ماذا نفعل مع الحضارة الغربية الجديدة التى تدق أبوابنا بعنف ؟ وهل نلغى أنفسنا لكى نكون نسخة طبق الأصل من هذه الحضارة أم أن واجبنا يفرض علينا شيئاً آخر  وتصوراً للأمور يختلف عن تصور الغربيين؟
والرواية تقوم على شخصية إسماعيل ابن السيدة زينب الذى تعلم فى إنجلترا وعاد بعد سبع سنوات ليعمل طبيباً للعيون،وإذا به يعود فيجد ابنة عمه« فاطمة» مريضة بعينيها ومهددة بأن تفقد بصرها،وكانت أمها تعالجها بزيت مأخوذ من « قنديل أم هاشم» – وأم هاشم طبعاً هى السيدة زينب- ويغضب إسماعيل، ويذهب إلى مقام السيدة، ويحطم القنديل، وينهال الناس على إسماعيل ضرباً وإهانة؛عقاباً له على جريمته فى حق مقام السيدة،ويستمر الصراع حتى يتنبه إسماعيل إلى أنه مخطئ عندما أراد ن يفرض على أبناء بلده – بالقوة- طريقة الحياة والتفكير فى الغرب.وقد اكتشف طبيب العيون أن هذا لا يجدى، وأن الذى يجدى حقاً هو أن يتعاطف مع أهله، وأن يساعدهم على الخروج من تخلفهم بالحسنى،والمحبة واحترام تراثهم الروحى والعقلى .وبعد أن اهتدى إسماعيل إلى ذلك استطاع أن يعالج فاطمة وأن يرد إليها البصر ؛لأنها وثقت به واطمأنت إليه وأحست بما يحمله لها من تعاطف ومحبة، وتنتهى القصة بزواج إسماعيل من فاطمة.
ويتوقف النقاش عن فكرتين أساسيتين حاضرتين فى كل أعمال يحيى حقى الأولى فكرة» الإرادة» التى هى عنده- حقى- أساس لجميع الفضائل وهذا ناتج عن تصوره أن العالم عبارة عن معركة كبيرة والسلاح فى هذه المعركة هو الإرادة مثل قصة « نهاية الشيخ مصطفى» كان رجلا طيباً يحفظ القرآن ورث ثروة طائلة لكنه فشل فى الحفاظ عليها، لأنه كان فاقداً للإرادة مستسلماً لنقطة ضعفه التى سيطرت عليه وهى إدمانه للخمر، وكانت النتيجة سقوطه فى هاوية الفقر والتعاسة واحتقار الناس له.
وهذه الفكرة عن الإرادة تكتمل بفكرة ثانية حيث يرى حقى أن سر الحياة يكمن فى القدرة على « الجذب» وفى قصة» امرأة بغير زجاج» فى مجموعته القصصية» أم العواجز» عبارة على لسان بطل القصة تقول:»لقد فقدت كل ما أملك، وأصبحت لا أستطيع أن أملك شيئاً، وأنا لا أملك نفسي»فهذه العبارة أصدق وصف للذين تضيع منهم أموالهم وزوجاتهم ؛لأنه ليست لديهم قدرة إيجابية على الجذب، فهى فكرة حضارية، فجاذبية الإنسان عنصر أساسى من عناصر نجاحه.
ويروى   الناقد الراحل رجاء النقاش قصة طريفة حدثت بين حقى وبيرم التونسى الذى كان منفيا إلى باريس ويعانى ظروفا اقتصادية ونفسية صعبة،وكان يحيى حقا معجباً بأدبه فكتب مقالا يشيد بأشعاره فى إحدى المجلات الأدبية التى يراسلها بيرم من باريس وسارع حقى بإرسال المجلة بالبريد المسجل إلى باريس وقال يحيى: «كنت أريد أن قول لبيرم إن فى مصر إنساناً يحبك ومعجب بك ويشيد بفنك ويهمه أن يبلغك بهذا الحب وأنت فى غربتك، وكان على بيرم ان يتسلم الطرد ويدفع رسوما، وظن بيرم أن الطرد يتضمن شيكاً من إحدى المجلات التى يراسلها من مصر، فدفع ما معه من رسوم وكانت هذه الرسوم كل ما يملكه فى تلك اللحظة.وعندما فتح الطرد ووجد فيه مجلة قديمة رماها على الأرض وهو يلعن ويسب من أرسلها له. وبعد عودة بيرم إلى مصر ذكره يحيى حقى بالواقعة،فإذا بوجه بيرم يظهر عليه الغضب قائلا: هو أنت ؟ الله يخرب بيتك. تعلم أننى لم أقرأ مقال حضرتك حتى الآن يا سيدي!.
وقال يحيى حقى يوماً عن نفسه إنه عاشق من عشاق اللغة العربية ووصف نفسه بأنه» مهووس» بهذه اللغة، وأحياناً كان يسمى نفسه باسم» الجاسوس» على «القاموس» فقد كان من عاداته أن يقوم بجولة فى صفحات المعاجم العربية ليس من أجل البحث عن معنى كلمة من الكلمات ولكن من أجل إيجاد مناخ لغوى عربى حميم يعيش فيه ويشعر بالألفة معه، وقد زادته هذه الجاسوسية معرفة بلغته العربية وما فيها من إمكانيات فتفجرت ينابيع الجمال من قلبه الغنى بالعواطف والتجارب.فيقول: «أصل أسرتى تركى نعم ولكنى نشأت فى بيت لا يتكلم إلا العربية ومع ذلك لا أسير فى الشوارع إلا ونوديت: يا خواجة،أضحك وأقول فى سرى آه لو كانوا يعلمون.
وظل حى «السيدة زينب»  الشعبى العريق فى قلب يحيى حقى على الدوام ويعتبره الجامعة التى تعلم أحسن العلم،وأحسن الأدب وأحسن الأخلاق،ولا ينافس يحيى حقى فى عشق المكان إلا عبقرى آخر هو نجيب محفوظ الذى عشق حي« الجمالية»بنفس الدرجة التى عشق بها يحيى حقى حى السيدة زينب .
وعناوين كتبه مستوحاة من هذا الحى  فمجموعة« أم العواجز» وهو لقب يطلقه الناس على السيدة زينب نفسها، وهناك أيضاً قنديل أم هاشم،و« أم هاشم» لقب آخر يطلقه الناس على السيدة زينب.وهناك عناوين أخرى مثل: « خليها على الله»،و« من فيض الكريم»،و« عطر الأحباب»،و« من باب العشم»،و« كناسة الدكان» وكلها وثيقة الصلة بحى السيد زينب، وهى لغة التواضع والتسامح،والفرح بالحياة،والتأدب فى مخاطبة الناس . وفى هذه اللغة نجد نوعاً من الخشوع والتقوى والتدين وهو شعور نخرج به دائما من كتابات يحيى حقى.
ويرى النقاش أن لغة يحيى حقى دقيقة ليس فيها« طرطشة» ولا ثرثرة،وليس فيها ذيول يجرها كاتبها وراءه دون أى ضرورة فكرية أو لغوية.
وعن ذكريات النقاش مع حقى يقول:
فى أوائل الستينيات طلب منى يحيى حقى طلباً غريباً وهو أن أكتب مقدمة لكتابه «خطوات فى النقد» ولم أصدق أن يحيى حقى يعنى ما يقوله، فقد كنت ناقداً ناشئاً وكان هو قد أصبح شيئاً خطيراً فى حياتنا الأدبية ولكنه شرح لى فكرته قائلاً: إنه يؤمن إيماناً قوياً بالشباب وهو يريد منى – كأحدث ناقد فى الحياة الأدبية- أن أقدم كتابه النقدى حتى يتم التواصل والاتصال بين الأجيال.وأثبتت لى الأيام صدقه فيما طلبه منى وكنت أظن أنه يجاملنى،فقد كان يطاردنى لكتابة المقدمة وأنا أهرب؛وذلك لأننى لم أستطع أبداً أن أقتنع بأننى جدير بهذه المكانة الفذة وهى تقديم يحيى حقى للناس .وظللت أسوّف وأهرب حتى اضطر أخيراً إلى طبع الكتاب بدون مقدمة.. وقد ندمت بعد ذلك على هروبى، وتمنيت لوأننى كتبت هذه المقدمة وحصلت على هذا الشرف الأدبى،ولكن شجاعتى لم تواتنى لأرتكب هذا الإثم أو هذا الشرف بأن أقدم يحيى حقى للناس.
ومن اللقطات الطريفة عن يحيى حقى أنه كتب عن افتتاح مسرح الجيب وشاهد الأديب الكبير يحيى حقى يجلس فى الصف الأول من المسرح وبجانبه شابة حسناء وكان النقاش يهدف إلى القول بأن الجديد والقديم معاً يرحبان بمسرح الجيب.ولكت يحيى حقى غضب وقال: إن التى كانت تجلس إلى جانبه هى ابنته « نهى» واضطر رجاء النقاش إلى الاعتذار وإيضاح الأمر للقراء.
 فى الشهور الأخيرة من حياة يحيى حقى، اشتد المرض عليه، ,,صدر قرار بعلاجه على نفقة الدولة ودخل المستشفى بناء على هذا القرار، وبعد أيام قليلة وقع زلزال مصر الشهير فى 12 أكتوبر 1992،فأصر يحيى حقى على الخروج من المستشفى قائلاَ: «إن السرير الذى أشغله أولى به أحد المصابين فى الزلزال، ولم يكن هذا الموقف نوعاً من التمثيل أو إثارة العطف أو لفت الأنظار بل كان موقفا حقيقياً من جانب أديب إنسان عاش حياته كلها ملتزماً بالصدق والأمانة من البداية للنهاية.
ولم تطل حياة يحيى حقى بعد ذلك كثيراً، فقد عاد إلى المستشفى وتوفى فى يوم 9 ديسمبر 1992.
         
 
  
                                





