الأربعاء 22 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لن نخرج بما أخذنا.. بل بما أعطينا   العطاء للإنسان.. للأسرة.. للوطن وللأجيال القادمة

لن نخرج بما أخذنا.. بل بما أعطينا العطاء للإنسان.. للأسرة.. للوطن وللأجيال القادمة

فى زمنٍ ازدادت فيه المادّيات طغيانًا، وتراجع فيه دفء الإنسان أمام صقيع المصالح، نحتاج إلى أن نتذكّر أن الحياة لا تُقاس بما نملك، بل بما نعطي....فما جمعناه اليوم سيزول، وما وهبناه سيبقى أثره خالدًا.



قال الله تعالى: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها» (الإسراء: 7) هذه الآية جامعة لأنها تضع الإنسان أمام حقيقته، فالخير الذى تصنعه يعود إليك، والرحمة التى تمنحها تُحيى قلبك قبل غيرك.

لغة الأرواح الراقية

العطاء ليس بالمال فقط، بل هو حضورٌ صادق، وكلمةٌ طيبة، وابتسامةٌ فى وجهٍ حزين.

قال النبى ﷺ: «كل معروفٍ صدقة» (رواه مسلم) ففلسفة الحياة الطيبة تعنى أن يكون وجودك فى الحياة أو فى أى مكان أو موقع إضافة، وكلامك راحة ويدك سندًا.

والمؤمن حقا لا ينتظر مناسبة ليعطي لأن العطاء عنده عبادة دائمة تُغذّى روحه وتُزكّى قلبه.

العطاء للأسرة.. أول ميادين الخير

العطاء يكون فى كل الميادين لكن الميدان الأول هو الأسرة... فهى أول مدرسةٍ فى دروس العطاء.

والعطاء للأهل لا يُقاس بما تُقدّم من مالٍ فحسب، بل بما تبذله من حبٍ وتربيةٍ واحتواء.

قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا» (التحريم: 6)

ويكون العطاء الحقيقى للأبناء أن تمنحهم من وقتك وأن تُورّثهم علمك وخبراتك وقيمك وأن تطعمهم من حلال.. فمن أجمل صور الوفاء أن تترك جيلًا قويًا يحمل رسالتك ويكمل طريقك.

قال النبى ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)

ذلك هو العطاء الممتد.. أن تُنبت شجرةً من الخير تظلّ وارفة بعد رحيلك.

فى المؤسسات.. روح الإتقان والعمل الجماعى حين تسود ثقافة العطاء داخل المؤسسات، تُزهر بيئة العمل بالعلاقات الإنسانية والإخلاص.

فالعامل الذى يؤدى واجبه بإتقانٍ يُعطى أكثر مما يأخذ، والمعلم الذى يُعلّم بعاطفةٍ لا بمنهج، والطبيب الذى يواسى قبل أن يعالج، كلهم صناع أملٍ وحياة شعارهم قول النبى ﷺ: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (رواه الطبرانى) فالإتقان نوعٌ من العطاء.. لأنك تُقدّم للآخرين عملًا يليق بكرامتهم ويُرضى خالقك قبل رؤسائك.

العطاء للوطن.. وفاءٌ للأرض والهوية

أن تُعطى لوطنك هو أسمى أشكال الإحسان.. وعلينا أن ندرك أن العطاء للوطن لا يكون بالهتاف، بل بالعمل والانتماء والوفاء.

قال الله تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» (التوبة: 105)

الفلاح الذى يزرع أرضه رغم قسوة الظروف، والجندى الذى يحرس الحدود فى البرد والحر، والمعلم الذى يضيء عقول الصغار فى القرى، كلهم رموز لعطاءٍ صادقٍ لا يُشترى.

والوطن الذى نحبّه يستحق أن نترك فيه أثرًا نافعًا بحثًا أو اختراعًا أو مبادرةً أو سلوكًا راقيًا يعبّر عن قيمنا.

جبر الخواطر.. عبادة لا يعرفها إلا الكرماء

قال النبى ﷺ: «تبسُّمك فى وجه أخيك صدقة» (رواه الترمذي) ليس كل العطاء مادّيًا؛ فكلمة طيبة قد تُرمّم ما كسرته الأيام، وابتسامةٌ صادقة قد تُعيد الحياة لقلبٍ أرهقته الهموم.

وجبر الخواطر عبادةٌ خفيّة تهزّ السماء؛ لأنها تلامس ضعف الإنسان وتمنحه قوة الأمل.

ومن روائع السيرة أن رسول الله ﷺ حين رأى غلامًا حزينًا على طيره الذى مات، قال له بلطفٍ: «يا أبا عمير، ما فعل النُغير؟» فأعاد بكلماته الحانية بسمةً إلى وجه الصبي، وغرس درسًا خالدًا فى إنسانية التعامل.

العطاء للأجيال القادمة.. ميراث الرسالة لا المال

قمة العطاء أن تتخلى عن الأنانية وعبادة الذات وأن تترك بعدك جيلًا قادرًا على حمل الراية واستكمال المسيرة.. فمنح الأبناء والطلاب والأجيال القادمة العلم والخبرة والقدوة الحسنة هو صدقةٌ جارية لا تنقطع. قال الله تعالى: «إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم» (يس: 12) فالله يكتب ما نقدّمه من أعمال، ويكتب آثارنا أيضًا.

والأثر لا يكون بالمال فقط، بل بما تزرعه من علمٍ وتبنيه من مؤسساتٍ وتتركه من قيمٍ وأخلاقٍ ووعي.

للمجتمع.. دواء الأرواح فى زمن الجفاء

المجتمع الذى يعطي يعيش متماسكًا متراحمًا. قال النبى ﷺ: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى العطاء الإنساني؛ أن نتراحم، نتكافل، نُعين بعضنا فى مواجهة ضغوط الحياة ... حين تُسهم فى مبادرة خير أو تُساعد مريضًا أو تواسى محتاجًا، فإنك تُعيد للإنسان معناه وللمجتمع توازنه.

معادلة السعادة.. بين الأخذ والعطاء 

من ظنّ أن السعادة فى الأخذ عاش فقيرًا، ومن أيقن أنها فى العطاء عاش غنيًّا. قال النبى ﷺ: «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى» (رواه البخارى)

فاليد العليا هى المعطية، لأنها تمنح دون انتظار وتُضيء دون أن تطلب الشكر ... أما اليد السفلى فتبقى دائمًا فى موضع الحاجة.

لهذا فالأمم لا تنهض إلا حين تتحول من ثقافة الأخذ إلى ثقافة العطاء، ومن أنانية الفرد إلى روح الجماعة.

العطاء والإخلاص.. سرّ البركة والبقاء كم من إنسانٍ أعطى القليل فبارك الله له فيه، وكم من آخرٍ أنفق كثيرًا بلا إخلاص فلم يجد أثرًا.

قال النبى ﷺ: «سبق درهم مائة ألف درهم» (رواه النسائى)

فالقيمة ليست فى الكم بل فى النية؛ فالله لا ينظر إلى يدك التى تُعطي بل إلى قلبك الذى يُخلص.

ازرع أثرك قبل أن ترحل

الحياة قصيرة مهما طالت، وما يبقى منها هو الأثر الطيب.

اعطِ حبًّا.. إبذر خيرًا.. واترك أثرًا.

فما خرج من القلب لا يضيع عند الله أبدًا.

ولن نخرج من الدنيا بما أخذناه، بل بما أعطيناه من حبٍّ وصدقٍ وإخلاصٍ وعملٍ نافعٍ وعلمٍ يُستنار به.

فلنُعطِ لأهلنا دفء القلوب، ولمؤسساتنا إخلاص العمل ولوطننا جهدنا ووفاءنا ولأمتنا علمًا يُبنى عليه ولأجيالنا قدوةً تسير على خطانا.

اللهم ارزقنا قلوبًا تُحبّ العطاء وتكره الشحّ، واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم بارك فى أعمارنا وأعمالنا، وارزقنا لذة الإحسان وصدق النية، واجعل أبناءنا وأجيالنا القادمة من حملة الرسالة والبنّائين للأمل.