السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«أصفاد الروح».. نظرة على الحرية والقيم الإنسانية

«أصفاد الروح».. نظرة على الحرية والقيم الإنسانية
«أصفاد الروح».. نظرة على الحرية والقيم الإنسانية




يبرز مصطلح التكثيف كآلية جذابة فى كتابة القصة القصيرة جداً، وهو يعادل مصطلح الاختزال وعرفه البلاغيون القدامى بأنه: أداء معان كثيرة بأقل عدد ممكن من الألفاظ.
واعتمدت الكاتبة نهى صبحى تقنية التكثيف فى مجموعتها القصصية  «أصفاد الروح» الصادرة عن دار روافد، كأسلوب كتابة معجما وتراكيبا وأساليب. ففى قصتها الأولى التى سميت باسمها المجموعة «أصفاد الروح» استغنت الكاتبة عن ذكر أوصاف الشخصية،وتحديد ملامحها الفسيولوجية والنفسية، بل اكتفت بالتلميح والإشارة، وغالبا ما تشيح النظر حتى عن الاسم أو الصفة أو تدقيق الهوية فتقول: «تشبثت بالأسوار بكل ما أتانى من قوة، فى قبضتي، وأغمضت عينى مع صوت حارس المرسى يخبرنى بضرورة مغادرتي، أخشى أن يعنفنى كى أغادر».
ومن الآليات التى فطنت إليها الكاتبة لتحقيق درجة عالية من التكثيف إهمال الزمان والمكان، فتبدو القصة نتيجة لذلك غير مرتبطة بحيز معين أو فترة معينة،بل صالحة للتعبير عن كل زمان ومكان فتقول فى قصة «انبعاث»: «فى زمان غير الزمان، كان الهروب من الجحيم، لكن الجنة المرتقبة امتلأت بالأشواك، حينما أمر الملك جنوده بالبحث عن العاشقين وإهدار دمائهما، وحتى حينما تضطر الكاتبة لذكرهما فإنهما يكونان زئبقيين لا يحيلان على زمان ومكان بعينهم، وكأنهما أصبحا والرمز سواء بسواء، فتقول فى نفس القصة:» ما زالت أرواحنا تتعانق مع كل فجر جديد فى الحياة..، وبعد الموت.. وفى البعث الوعيد».
وهذه المجموعة  تجترح، فى لعبة الحكى الجميل، قيما جمالية وإنسانية، وقد بلغت فى مجموعتها القصصية الأولى مرحلة متقدمة من الوعى بقضايا الإنسان ومشاكله وهمومه والتحديات التى تعترضه فى سبيل البلوغ إلى مجتمع راق جماليا وإنسانيا. إذن، يحق لنا أن نتساءل الآن بصدد الحديث عن هذه المجموعة: ما هى القيم الجمالية والإنسانية التى تسرى فى تضاعيف قصصها؟ ما الذى تضيفه هذه المجموعة فى سياق الأدب النسائى المصرى والعربي؟ هل ثمة فى المجموعة ما ينم عن الإبداعية والجمالية؟.
وأول ما يلفت النظر فى كتابة نهى صبحى القصصية أنها تنزع إلى التجديد والتحديث، إذ هى تبتكر فى كل قصة طريقة حديثة من طرائق الحكى الحداثية المتعددة منها استخدام ضمير المتكلم «الأنا الساردة» بكثرة - إيهاما بصدق المحكى وكأنه سيرة وليس قصة - هذا ما تبدأ به قصة «أبكم» تبدأ هذه القصة بالجملة الحكائية التالية «بعد ثلاث سنوات وأمام هذا التلفاز المتحدث الوحيد بمنزلى أنا ما زلت أرددها وحدى كل يوم، بكل نبرات صوتى وشتى حالاتى أعبر عنها، أحبك، اشتقت إليك»، ثم يتوالى السرد متدفقا بضمير الأنا، مزدانا بآليات الصنعة الحكائية الحداثية. حيث المزج بين الحاضر والماضى يتم فى توليفة سردية واحدة.
من القيم الجمالية اللافتة فى المجموعة قيمة «المحاكاة والتخيل» ونعنى بالمحاكاة هذا المسعى الدءوب الذى تنتهجه الكاتبة فى تصوير واقع الحياة الإنسانية من حولها، وهى فى تصويرها تتكئ على آلية المحاكاة ـ التى لا تعنى نقل الواقع نقلا فوتوغرافيا كما يمكن أن يذهب إلى ذلك ظن القارئ ـ وإنما هى تضخ فى هذه المحاكاة القصصية ـ التخييل الذى يجعل الواقع المحاكى جديدا بالنظر إلى ما بثه التخيل فيه من حيوية وعرامة واحتشاد بالحياة الكائنة والممكنة، للتمثيل على ما نذهب إليه هنا، نقتطف هذا المقطع الحكائى من قصة «كفيفة» فتقول: «وسط هذا الظلام المخيف، تأتى خطوط رقيقة ملساء مبللة قليلا تقبل جبيني، أنفاس دافئة تداعب جلدي،وصوت قبلة حنونة يتردد صداها بأذنى، وكيف يحمل الدنيا براحته، يسير على ظهرى وعنقي، يعبر بأنامله على قلبى يملؤه دفئاً وطمأنينة».
تكتسى قصص  المجموعة أهمية خاصة فى بلورتها للمفهوم الجديد للحرية، الذى لا ينصب على حرية الأنثى ورغبتها فى التخلص من الطوق الذى يلفها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى ما هو أبعد وهو تكسير الطوق عن الإنسان فيما يحد انطلاقته المحتشدة بعرامة الحياة وقوتها وعنفوانها، ولذلك نجد فى تضاعيف قصص المجموعة تجليات عديدة لمفهوم الحرية باعتباره قيمة نبيلة غالية من القيم الإنسانية الرفيعة، فالمرأة تحتاج إلى الحرية بالمقدار الذى يحتاج إليها الرجل وكلاهما ينبغى أن يتعاونا وتتضافرا جهودهما للاستمتاع بالحرية وعيش مباهجها اللا محدودة، إن مباهج الحرية هى مباهج الحياة التى ينشدها أبطال قصص مجموعة «أصفاد الروح»، أى منذ تلك الطفولة الضائعة المغتصبة، منذ تلك الحياة إلى الحياة الجديدة يمتد شريط الذكريات بتدفق وحرية غير مشروطة.. حرية يهواها أبطال القصص ويتماهون معها ليعيشوها ويحيوها وكأنهم يولدون من جديد أو كأنهم يؤسسون حياتهم الجديدة:حياة الحرية، وهكذا تكون الحرية من القيم الإنسانية التى يتمسك بها شخوص قصص هذه المجموعة بكاملها فتقول فى قصة» الفرار»: فى هذه اللحظة أمسكنا بأيدى بعضنا، بينما نركض بعيداً،عن الناس نستخدم عظامنا،عضلاتنا، أوعيتنا الدموية كى لا تضعف قبضتنا،هذا تقريبا كل معنى الحب بالنسبة لى».
تنطوى  مجموعة «أصفاد الروح» على  قيم جمالية وإنسانية،تضفى على المجموعة سمات التجديد والتحديث، والمحاكاة والتخييل، والانسجام والتناغم وهذه قيم جمالية ترتفع بالمجموعة إلى قمة الإبداعية القصصية، وتجعل قارئ القصص يخرج بانطباع عام مفاده أن هذه الكتابة القصصية لدى نهى صبحى كتابة تواكب الجديد فى الكتابة القصصية المغربة والعربية، وبمواكبتها هذه تكون قد حققت لنفسها ما هى جديرة به من استحقاق المجد الأدبى، خاصة وأنها قلم قصصى يتأنى فى الكتابة والنشر،وتأنيه علامة قوته.
جدير بالذكر أن نهى صبحى كاتبة مسرح حيث كتبت مسرحية «مرة واحد عايش» بالمشاركة مع أحمد الويشى، التى عرضت على مسرح رومانس مؤخراً، وعرت فيها أمراض المجتمع وغياب القيم.