السبت 22 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بيض الفراخ لا يصنع الطاقة النووية




بقلم: محمد الدويك

عرفته منذ عشر سنين، كمصريين يلتقيان فى الغربة ليتذكرا طعم الملوخية ورائحة البيوت قبل صلاة الجمعة وحب المراهقة الذى لا يكتمل، وإحباطات شعوب العالم الثالث.
كان على يقين أن رحلته إلى كييف ستكون الأخيرة، تلك المدينة التى يقطعها نهر الدنيبر نصفين غير متساويين، فينمو العشب والغابات الكثيفة لتصبح المدينة الأكثر خضرة فى الاتحاد السوفييتى الذى يهوى الجليد.
أيامه الأخيرة قضاها فى الانهماك فى العمل والاسراف فى التدخين ليهرب من ماض يلاحقه، حتى رحل وهو يحمل همومه وحلما أخيرا بالعودة.
أثناء إجراءات الجنازة كان معنا رجل دين أزهرى من المركز الإسلامى، أرقدناه على الجانب الأيمن استشراف القبلة، ووضعت زهرة قرنفل حمراء عند رأسه كما طلب، ونظرت فى الأفق البعيد أتساءل.. ما الحياة؟
أحيانا لا يحب الإنسان أن يموت قبل أن يحكى حكايته، إنه تمسك أخير ببقايا الحياة، حتى لو مات ترك وراءه قصة ما.
حكى لى منذ أن كان طالبا فى قسم الهندسة النووية بجامعة الاسكندرية، القسم الوحيد فى مصر منتصف الستينيات، والذى أنشأه عبدالناصر، كان عبد الناصر لديه حلم عظيم بإمكانيات صغيرة. وحلمه فى الأساس كان يتمحور حول ذاته، مجده الشخصى، لذلك مات الحلم بموت صاحبه.
تخرج وتم تعيينه بمفاعل انشاص بمحافظة الشرقية، كان يظن أنه سيتحول الى واحد من هؤلاء الذين يغيرون العالم، فالطاقة النووية كانت معجزة تشبه معجزات الأنبياء.
ولا يكف عن تذكيرى بقصة عالم الهندسة النووية، الباكستانى، عبدالقدير خان. كان طفلا مسلما بين جموع الهندوس فى الهند ورأى المذابح والحروب الأهلية بين المسلمين والهندوس قبيل انفصال الباكستان. ورأى موت أبيه وأمه.
تعلم الهندسة النووية وسافر إلى أوروبا ونال رسالة الدكتوراة، وتدرج فى العمل فى احدى الشركات الكبرى التى تعمل على تخصيب اليورانيوم بتقنية الطرد المركزى، عاش كشاب أوروبى حديث وسافر خلف عشيقته الهولندية ليتزوج بها. لكنه كان يختزن داخله آثار الماضى العميق من غضب وانتقام. جروح غائرة لا تندمل بمرور الوقت.
ولحظة اكتمال الحلم، تحدث عبد القدير إلى رئيس باكستان، ذوالفقار على بوتو، وأخبره قدرته على صناعة القنبلة، ترك عبدالقدير عمله فى مؤسسة اليورينكو وغادر هولندا، وأخذ معه كل ما يحتاج لصناعة قنبلة نووية فى بلده، لتتحول باكستان إلى بلد نووى مماثل للهند، لا لشيء إلا ليضع تأمينا لمخاوف الطفولة التى لا تزول، مخاوف طفل لم يتخلص منها تجاه الهندوس هى التى صنعت قنبلة نووية. صديقى كان اسمه عبدالقادر يشبه عبدالقدير، لكن طريقهما ليس واحدا.
فى هذا الوقت كانت مصر تمر بعصر الانفتاح الذى هوى معه كل ما له علاقة بالعلم ليبرز عصر السماسرة وتجار العملة وبائعى الصابون، وتحول إلى موظف حكومى بلا عمل، يذهب فى الصباح يأكل سندوتشات الطعمية على ورق جرائد مزيت، ويعود الى بيته. بعض أصدقائه قام بنشاط انتاجى لسد الفراغ.. كانوا بيربون فراخ!. وفى الشتاء كانوا يستخدمون الأفران العملاقة داخل المفاعل لشى البطاطا.  وأصبح مصير مصر فى الطاقة النووية موزع بين بطاطا ساخنة، وبيض الفراخ.
قرر الهجرة.. سافر إلى البرازيل وقام بالتدريس فى إحدى الجامعات، ثم انتقل إلى الاتحاد السوفييتى الذى يحوى البطون الخاوية والعقول الممتلئة.  ومضت حياته بين عمل جاد يخفى به احباطات قديمة، والكثير من الكلام.
كان ينوى العودة لو كفت المفاعلات النووية عن شى البطاطا، ولو فعل خبراء الطاقة النووية شيئا غير تربية الفراخ، لكن تراب القبر كان أكثر قربا. وصدقا!
كاتب فى الفكر الإسلامي