
باسم توفيق
إميل سيوران بين الأبجراما النثرية والتفكيك لإسقاط النص
إن فى المحاولة الدائبة لإيجاد صيغ جديدة للكتابة غير محتملة وغير متسقة مع قاعدة قد تلقى بالكاتب فى رحاب مدرسية تصنفه وتقوم بتأطيره فيما يعرف بقتل ذاتية الكاتب، هذه المحاولة لإيجاد معادل رمزى وذاتى للنص هى التى تفضى بكل قوة إلى الوقوف على أعتاب حداثة هى فى الحقيقة انسلاخ من سلطة النص القديمة والحصول على وعد ضمنى بأن ما يطرحه النص قد يصنع أيضا قارئاً باستطاعته أن يكون حداثيا يتجاوز عن المضمون التقليدى لكلمة نص كلما لزم الأمر.
فى الحقيقة هذا الطرح يستدعيه إعادة اكتشاف كاتب مغرق فى تتابعات نقدية لا تنتهى مثل إيميل سيوران والذى احتفل به قسم الأدب المقارن بجامعة إنديانا الأمريكية ضمن ندوة تذكارية لأحد أساتذتها النجباء والذى كان لهم الفضل فى خلق سيوران جديد داخل إطار اللغة الإنجليزية وضمن تداخلات الأنجلو- أميريكان التى تتعاطى الحداثة سراً وتهاجمها أحيانا جهراً، هذه الأستاذة العظيمة هى البروفيسور إلينكا زارفبول جوهانستون أستاذة الأدب المقارن بجامعة إنديانا والمتوفاة عام 2005 والتى حملت على عاتقها تقديم سيوران من خلال رؤية نقدية مستنيرة تتماشى وتتابعاته العدمية فى الكتابة.
لربما نحاول أن نقول أن ما خاضته إلينكا جوهانسون ليس جديدا بشكل كبير على علم نقد الحداثة وما بعد الحداثة فلقد سبقها قبل ذلك – ونعتقد أنها طالعته –أحد عمالقة النقد فى عصرنا الحديث وهو البروفيسور إيهاب حسن أستاذ علم النقد بجامعة ميلواكى وصاحب السبق فى وضع نظرية الحداثة وما بعد الحداثة، حيث اعتبر إيهاب حسن فى كتابة الأشهر «تقطيع أوصال أورفيوس» أن بداية الحداثة ربما تعود لكتابات الماركيز دى ساد الخارجة عن كل الأطر الأخلاقية ومرورا ب آرثر رامبو وحتى كتاب الرواية الفرنسية فى النصف الأول من القرن العشرين، وحيث خلُص أن هؤلاء كانو فى محاولة دائبة للثورة على فعل الكتابة بغرض واحد وهدف باطنى ألا وهو قتل الكتابة والوصول إلى حالة اللاكتابة، لذا ليس من الغريب أن تضع «جوهانسون» عنوانًا لأحد كتبها ليصبح – نحو قتل النص – هذا ما يجعلنا نؤكد أن «سيوران» كان فى نهاية هذا الخيط وبذل كل جهده للوصل إلى أبعد مدى فى قتل النص حتى إنه كان واعيا تماما أنه يقوم بتفكيك النص من خلال إسقاطه وتحطيمه وإبراز حرية الكاتب فى امتهان النص ووضعه موضع الهذيانات.
وحتى تصل فكرة كيفية تعاطى إيميل سيوران مع النص للقارىء فإننا نصفه مبدئياً بأنه ناقد موسوعى اختزل أطروحات نقدية دار فى فلكها مئات من المفكرين قرون عدة، اختزلها فى مقولة صغيرة مكونة من عدة أسطر وربما عدة كلمات أحيانا، ولا أستطيع أن أصفه بأنه كاتب شذريا كما يصف نفسه، بل أستطيع أن أقربه للقارى بأنه كاتب مأثورات أو كاتب يفكك النص من خلال اختزاله فى حكمة وبكل بساطة فقد يجوز أن نسميه - Quotes Writer - وليس هذا تقليل من شأنه لأنه ليس كاتب حكم أو مقولات عميقة فقط بل أنه جعل من هذا الأسلوب طريقا لاختزال ألاف الكلمات أحيانا.
ولربما يجدر بنا أن نصنف «سيوران» على أنه كاتب يمقت التطويل ويكره تداعيات النص والتى تصل به أخيرا للاجدوى فى محيط جدلى غير مستساغ، وأكاد أجزم أن سيوران ابتدع ما يعرف بالإبجراما النثرية، فحيث نشأت الأبجراما الشعرية كفن شعرى قصير بديلا عن فنون الشعر الطويلة حتى أنها كادت تحل مكان هذه الفنون مثل الملحمة فى العصر السكندري، ولعلنا قد يحالفنا الصواب إذا قلنا أن إيميل سيوران مثله مثل كاليماخوس أيقونة الشعر السكندرى فضل الأبجراما على الملحمة وهاجم معاصروه الذين كتبو الملحمة مثل أبوللونيوس، واعتبر أنه كلما طال النص كلما حمل مخلفات وشوائب كثيرة مثله مثل النهر الكبير لكن النص القصير مثل الأبجراما مثل النبع الصغير الصافى الذى لا يعبر أماكن كثيرة فيمتلئ بالشوائب والمخلفات، وهذه نفس وجهة نظر سيوران فى النص المتخم والكبير، لذا فإنه ليس من قبيل التهويل النقدى أن نصف سيروان بأنه مبتدع الأبجراما النثرية.
يقول سيوران: (الرومانسية الانجليزية كانت خليطا من روح الأفيون والمنفى والسلّ والرومانسية الألمانية كانت خليطا من الكحول والريف والانتحار) وعلى الرغم من أن هذا لا يدمغ كلا الرومانسيتين بهذه الصفات بشكل مطلق إلا أنها مقولة على جانب كبير من الصواب وهو هنا يختزل عدة صفحات فى الحديث عن الرومانسية ومدارسها ولو فى شق واحد.
ونقف حائرين عند اعتبار «سيوران» وبشكل معلن ودون مواربة أن الحضارة الأوربية ماتت وتنتظر طقس الدفن مثله فى ذلك مثل نيتشه والذى أثر فيه بشكل كبير، والحيرة هنا من أن هذه الفكرة كانت غريبة على أوربى شرقى رومانى الأصل يستمد قوته من قدسية الحضارة الأوربية التى تعتبر الكنيسة هى الوحدة الأولية فى نبتها الحضاري، لكننا نقول أن هذا ليس غريبا على كاتب اتخذ تفكيك النص منهجا ضمنيا وباعتبار أن النص جزء من الطرح الحضارى الأوربى، فقد يستدعى ذلك تفكيك الحضارة نفسها من خلال دحض نبتتها الأولى، وفى هذا السياق يقول: (لما كانت طرائق التعبير قد استهلكت فقد أتجه الفن ناحية اللامعنى ناحية كونه شخصى ومستعصى على التوصيل إن أى ارتعاشة قابلة للفهم فى الرسم كانت أو فى الموسيقى أو فى الشعر، ستبدو لنا عن حق شيئا باليا أو مبتذلاً، الجمهور زائل عما قريب ولا شك أن الجمهور لاحق به عن كثب، الحضارة التى بدأت بالكاتدرائيات لابد وأن تنتهى بالشيزوفرينيا والهرمسية).
ولا مناص هنا من اعتبار عدمية سيوران وهجومه على النص فيها الكثير من أساليب الرفض عند مذاهب الفلسفة العدمية مثل الكلبية والتى ابتدعها إغريقى فى نهاية العصر الهللينى ويصرح سيوران بذلك فى غير ذات موضع كأن يقول (كلبية العزلة الأقصى هى محنة تخفف من غلوائها الوقاحة) ويذكرنا ذلك أيضا باتساق مواقفه أحيانا مع الكلبيين فلما وقف الإسكندر الأكبر أمام أحد الفلاسفة الكلبيين وكان معجبا بفكرة وسأله ماذا تريد تمنى عليا، فرد علية الفيلسوف قائلاً: نعم أريد، أريد أن تبتعد عن طريقى لأنك تحجب عنى الشمس. ويقترب هذا الموقف من طرافة موقف سيوران حينما طلب منه أحد علماء الرياضيات الجلوس جانبه والحديث معه فرد عليه سيوران بحدة: هل أن شكسبير؟ فقال الرجل لا قال له إذا ابتعد عنى فأنا لا أتكلم إلا مع شكسبير.
ولد أميل سيروان بإحدى قرى ترانسيلفينا برومانيا عام 1911 ثم انتقل مع والده الذى كان قسا أرثوذكسيا إلى مدينة سيبيو ودرس الفلسفة فى بوخاريست والتى أكمل دراستها فى برلين وبعد فترة قضاها يدرس الفلسفة فى معهد الفلسفة بمدينة براشوف رحل إلى باريس وقضى فيها باقى حياته كاتبا ودارسا حتى توفى فى باريس عام 1995 بعد أن أصبح من أكثر الكتاب مبيعا وقراءة حتى منح جائزة بول موران لكن إيميل سيوران والذى حمل كل هذا الهجوم على النص رفض الجائزة بكل قوته ليؤكد أكثر وأكثر أنه يكتب ليمارس تجريد النص وإسقاطه ليس أكثر لا ليصبح شهيراً أو ليحصل على الجوائز.