باسم توفيق
فالتر بنجامين بين الحداثة فى النقد وعبقرية التنوع
(إن البدن الحقيقى للنقد هو ذلك الحالة القياسية التى يمكن معها معرفة إلى أى مدى قدم هذا الجنس الأدبى أو هذا النوع الفنى نفعا ما للفكر البشرى أو حركة النمو الحضارى أو حتى حركة البهجة ونقل الفكرة فإذا تعذر وجود هذه الحالة القياسية فقد النقد بدنه وأصبح أطراف تلوح دون جدوى).
هكذا يفتتح المفكر والفيلسوف الأمريكى الكبير ريتشارد رورتى أحد مقالاته عن النقد وبنية الحداثة وهو فى الحقيقة يصلح أن نتخذه مفتتح دخول لحالة الفوضى الجلية التى وصل إليها التنظير فى علم النقد وفلسفة هذا العلم التى تشعبت حتى أصبحت تكتنفها غموض الرؤيا والهدف أيضا على الرغم من أن الهدف من النقد والتنظير فيه بسيط للغاية ويمكن لأى إنسان يملك أفكار مرتبة استخدامه دون أدنى التباس أو تشويش وعلى الرغم من ذلك وصلنا لهذه الحالة الضبابية من جدوى هذا العلم والتنظير فيه وربما السبب فى ذلك راجع لعدة محاور أهمها أننا تركنا التنظير النقدى للفن وبدأنا فى التنظير لعلم النقد ذاته أى أننا ببساطة بدأنا التنظير على النظريات وربما يولد الآن الجيل الثالث من الحداثة الذى يلقى إلينا بمرحلة ثالثة من وضع نظريات لنظريات وضعت للنقد وهكذا أصبح الأمر غامض ومبهم وبتالى أصبح الكثير من القراء غير الأكاديميين يعزفون عن قراءة مثل هذه الترهات من وجهة نظرهم بحسب استطلاع للرأى أجراه معهد الدراسات الفلسفية بجامعة بروكسيل والذى كان منصبا بالأساس على رصد حركة القراءة لمؤلفات نقدية تتبع المدرسة الفرنسية الحديثة والتى من بينها فوكو ودريدا وبعض نقاد الأدب الفرنسى والنقد الفرنسى مثل فالتر بنجامين وكانت النتيجة حقيقة تراجع الإقبال بنسبة 54% وهى نسبة ضخمة إذا ما قورنت بقبل أربعين عاما كما اقر الأكاديميين أنهم مجبرين للتعاطى مع مثل هذه الأعمال لنيل درجات علمية.
لكن بدون إلقاء حالة من اليأس على مستقبل الفكر النقدى والفلسفى علينا أن نؤكد أيضا أن الحل التى وصلت إليه الأوساط الفكرية الأوربية يناسبنا تماما فمعظم الدوائر الثقافية والأكاديمية وجدت أن إعادة التنقيب فى ثنايا وتراث الفكر الأوروبى بداية من النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كفيل بأن يعيد الشريحة الكبرى من القراء والمثقفين إلى التعاطى مع الفكر التنظيرى المجرد سواء كان فلسفة أو نقدًا أو كليهما وهذا بالفعل ما نستطيع أن نسير على نهجه فنحن لا ينقصنا فى هذه المرحلة التراث الفكرى الدسم والخلاق بل على العكس فلقد أدت حركة الدفع الثقافى فى النصف الأول من القرن العشرين فى وطننا العربى إلى تكدس تراث فكرى خلاق قد يصل إلى نفس مستوى النتاج الفكرى الأوربى فى هذه الحقبة بل وقد يتعداه بدون مبالغة ففى هذه الفترة كان المفكرين العرب أمثال طه حسين وزكى نجيب محمود ولويس عوض وإيهاب حسن وادوارد سعيد لاحقا جزء لا يتجزأ من حركة الجدال العالمية وأكثر من ذلك أن معظم مفكرينا نفذت مدارسهم إلى الغرب وأصبح لهم أتباع وتلاميذ مثل الدكتور إيهاب حسن أستاذ علم النقد الحديث فى جامعة ويسكنسن ملواكى الأمريكية.
إذن فنحن بحاجه للتوقف عن كثرة النقاش التى أصابتنا بالدوار لفترة من الزمن حتى نستعيد ونتدبر هذا التراث الهائل الذى تخلف عن فترة ثمانى عقود فى الفكر العربى الحديث.
ولكى تتضح الفكرة علينا أن نقدم مثالا حيا على تراجع محاولة الابتداع الأوربى والاتجاه بقوة لإعادة تحليل التراث الأوروبى الحداثى إذا جاز التعبير هناك عدة جامعات تعمل منذ فترة على إعادة أحياء أفكار كتاب يشار إليهم بالبنان على إنهم من رواد حركة الحداثة وعلى رأسهم المفكر الألمانى الكبير فالتر بنجامين والذى من الممكن أن نطلق علية (الحلقة الأولى فيما بعد الحداثة) لأن فالتر بنجامين تعدى ما يعرف بالناقد الموجه أى المنصب عملة فى فرع واحد من الفن لكنه تعدى ذلك لكل أنواع الفنون فيظل هو الناقد الوحيد الذى شمل نقده المسرح والرواية والشعر والفوتوغرافيا والعمارة كما يشكل فالتر بنجامين عضوا قويا فى المدرسة الألمانية التى وضعت الهيكل الجديد لعلم النقد والجمال والتى كان على رأسها تيودور أدورنو وهوركهايمر ولعل بنجامين لم يحظ بنفس الشهرة والتقدير الذى حصل عليهما زملاؤه أدورنو وهوركهايمر لأنه وبشكل ما ألصق به بعض سمات الفوضوية والولاء المتأرجح لكل ما هو ماركسى أو حتى راجع للتراث العبرانى، لكن فى الحقيقة أن بنجامين كان مشاركا فى عملية التنوير مثله مثل زملائه تماما لكن ظروف حياته لا سيما فى العقد الأخير منها هى التى أدت إلى اللبس وسوء التفاهم نتيجة لدراسته بشكل مجتزئ وغير كلى أيضا مأساة انتحاره كانت كفيلة بوضعه ضمن قائمة كبيرة من المفكرين والفنانين المحبطين والذين فقدوا ثقتهم بعالم تسوده الحروب والصراعات العرقية كل هذا شارك فى تصنيف بنجامين كما قلنا ضمن فئة لا يتبعها بالأساس.
يقول ف.أ بوركهاوس أحد كتاب السيرة الذاتية لبنجامين (يعتبر فالتر بنجامين أحد مآسى الحرب العالمية الثانية والتمييز العنصرى المروعة فكونه يهوديا جعل منه مطاردا دونما أى جرم من قبل النازى ولم يكن بنجامين بالطبع الوحيد الذى لاقى هذا المصير وأستطيع أن أقول إن بنجامين كان أحد ركائز الفكر النقدى الحديث وربما هو الذى وضع حجر الأساس لنقد النص التاريخى قبل أن يظهر فى سماء الفكر فوكو او بوكاهارت أو هويزنجا).
الحقيقة أن كلام بوركهاوس شديد الدقة والوضوح فلولا انتحار فالتر بنجامين لكان هو الآن صاحب الفرع الأكثر جاذبية فى المدرسة الألمانية.
ولد فالتر بنجامين فى برلين فى يولية 1892 لأب أوم من الأشكيناز وتعتبر هذا الحقبة والتى كانت ألمانيا لازالت إمبراطورية عتيدة بدأ اليهود الألمان ينضمون للحركة السياسية لأنهم كانوا قد شاركوا بالفعل فى الحركة الفكرية قبل ذلك بكثير وكانت الكانطية الجديدة قد ازدهرت فى هذه الحقبة قبل أن تطرأ حالة التحول للأفكار الأكثر تقدمية وتأثر بنجامين فى فترة صباه بمعلمه جوستاف فينكين قبل أن يقرر التطوع فى الحرب العالمية الأولى ثم يعدل عن هذا التطوع بعد انتحار صديقة الشاعر فريتس هاينليه ويبدأ رحلة من النضج الفكرى ويتأثر كثيرا بالمفكر الكبير جريشوم شولم لكنه أيضا يشكل جزءا من المدرسة الألمانية فهو الضلع الثالث فى ثالوثها الشهير أودورنو وهوركهايم، هذا الخير هو الذى يساعده فى أيجاد فرصة ليكتب فى مجلة متخصصة بعد أن يترك الدراسة الأكاديمية فى برلين ويتوجه للعيش فى باريس ويظل فى حالة تهديد مستمرة حتى يدخل هتلر باريس فيفر إلى إسبانيا وهنك يقع فى قبضة قوات الدكتاتور الإسبانى فرانكو على الحدود ويمنع من عبور الحدود هو ومجموعة من اليهود الذين فروا من فرنسا فينتحر بنجامين بجرعة زائدة من المورفين فى بورت بو بإقليم كاتالونيا فى 26 سبتمبر 1940 وفى اليوم التالى لانتحاره يسمح لكل مرافقيه بالعبور فيصبح بنجامين وكأنه الأضحية التى قدمت لنجاة الآخرين.
كتب بنجامين المئات من المقالات النقدية والتحليلية فى كل فروع الفن لكن هناك مجموعه شديدة التميز اشتهر بها مثل مقالة الشهير (شارع اتجاه واحد) ومقالة عن مارسيل بروست وروايته العملاقة البحث عن الزمن الضائع أيضا سلسة المقالات المسماة (العمل الفنى فى عصر الاستنساخ الميكانيكي) كما يعتبر مقالة عن ديوان شارل بودلير – أزهار الشر – من أروع ما كتب عن بودلير خاصة وانه قد ترجم الديوان إلى الألمانية.