الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الانهيار الثقافى بين «العصر العبيط» و«أنت برنس المرحلة»

الانهيار الثقافى بين «العصر العبيط» و«أنت برنس المرحلة»






حقيقة هناك أمور كثيرة على مستوى مجتمعنا لا نعرف كيف ندخل إليها ومن أى باب فهذه القضايا كالمنزل الخرب ليس له أبواب ولعل قضية الانهيار الثقافى وتراجع المستوى الثقافى فى مجتمعنا المصرى منذ عقدين أو ثلاثة يذكرنى بعدة مواقف تتداعى داخل عقلى مثل فصول كوميديا سوداء حتى تذكرت هذا الاصطلاح الغريب الذى ينتشر بين مروجى الآثار الذين يبحثون عن الثراء من خلال الاشتراك فى صفقات لبيع الآثار تحت مسمى أنهم خبراء ومعظمهم لم يتلقوا حتى التعليم الأساسى فقد يأتى إليك بعضهم ويعرض عليك قطعة آثار من النوع الخشن ويفاجئك بأن هذه القطعة من العصر العبيط! بالطبع ليس المقصود هنا الدخول فى خضم جريمة بيع الآثار لكن المقصود هنا كيف أدى الانهيار الثقافى والمعرفى لأن ينتشر هذا المصطلح حتى بين طبقات من المفترض أنها متعلمة وواعية؟ حتى أنك قد تجد رجلًا من طبقة المتعلمين يردد هذا المصطلح على اقتناع تام بأن هناك فعلا مخلفات أثرية تنتمى لهذا العصر العبيط.
الحقيقة أن التراجع فى آليات التثقيف والتعليم أيضا أصبح تتفرز ما سوف نطلق عليه يوما ما العصر العبيط فلقد تحول السواد الأعظم فى مجتمعنا لتراجع ثقافى ومعرفى مخيف نتيجة لتراجع آليات التلقين والتلقى فأنت تجد مثلا فى عاصمة صغيرة مثل «براغ» فى جمهورية التشيك على جدول فعالياتها الثقافية والفنية فى شهر واحد 70 فعالية منها ما هو داخل المدارس والجامعات ومنها ما هو فى الأماكن العامة والهدف منها هو رفع مستوى الثقافة والإبداع عند رجل الشارع العادى والطلبة والأطفال أيضا، وحيث إنك قد تجد صبيا فى مجتمعنا يحدثك بكل طلاقة بلغة العشوائيات على الرغم من انه لا ينتمى إليها فإنك قد تجد طفلا فى مكان ما فى أوروبا أو فى بعض الدول الآسيوية يحدثك بطلاقة عن علم المصريات وعصور الأدب وغيرها من المواد الثقافية الدسمة وهو بالتأكيد لم يتلق هذه المعلومات فى مواده الدراسية لكنه وجدها تتسلل إليه من وسائل الإعلام ومن خلال أنشطة ثقافية محببة تجعل من الصعب عليه أن يقف جامدا أمام تلقى هذا الزخم من المعرفة.
الحقيقة أن المشكلة ليست بسيطة أو كما قد يعتقد البعض مسألة وقت لكنها إشكالية كبرى قد تضمحل وتنهار مجتمعات وحضارات بسببها، لكن المتهم هنا ليس شخصًا بعينه أو هيئة بعينها لكن الكل مشارك فى هذا التراجع المخجل للمستوى الثقافى والفكرى الذى حل على المجتمع بكل طبقاته وربما فى الأساس هو الغياب الواضح والصريح لآليات الضبط فى عملية التلقين والمطروح، وبمعنى أبسط تعتبر قضية بناء الذوق العام أو الارتقاء به هى آخر أوليات تجد لها مكانا فى جدول أعمال الدولة ومن ثم يغيب الضبط الحقيقى لعملية الثقافة والمعروض فى متناول الملتقى من جميع الأعمار وعدم محاربة الغث منه بقوة وهذا ليس تعسفا بل هو واجب لا يقل خطورة عن واجب مكافحة المخدرات مثلا.. فمنذ حقبة ليست ببعيدة أصدرت الملكة فكتوريا قرارا بعقاب أى كاتب يكتب فى الجرائد يهبط بمستوى اللغة الراقية لأنه يصدر هذا الحس المتدنى فى تذوق اللغة للقارئ مباشرة وحيث كانت الصحافة هى أكثر وسائل الإعلام انتشارا فى هذه الفترة حتى إن القضاء قام بمحاكمة كاتب ذكر أربع كلمات عامية من هذا النوع الذى يهدم جماليات اللغة وقام بتحريف عدة أبيات للورد بايرون.. وكان ممثل الإدعاء يصرخ داخل قاعة المحكمة بأن قتل اللغة وجمالياتها يعتبر أكثر وحشية وإفسادا من قتل إنسان لأن قتل جماليات اللغة قد يقتل أجيالًا ويوأد طاقات إبداعية سوف تخرج عما قريب للنور.. هنا لا نجد أى رد فعل تجاه هذا الطوفان الجارف للكتابات الغثة والبذيئة التى تصدر كل يوم عن دور نشر معروفة وهيئات لها اسمها وتحوى كماً ضخماً من هذه التراكيب التى لا تفسد جماليات اللغة وحسب بل وتقوم بتفكيكها ودحضها من الأساس بإدعاء العامية واللغة الساخرة وما إلى ذلك من حجج واهية تخفى ضعف الكاتب واستهانته بعقلية القارئ واعتباره أن معظم القراء يشاركونه هذا الابتذال، بل والأكثر مرارة أن تجد أن نوعيات من هذه المصنفات الخطرة يتم عرضها وتدشينها فى حدث ثقافى عالمى وضخم مثل معرض القاهرة للكتاب وتجد احتفاء غريب بهذه القصاصات من القمامة فهذا مصنف يقول صاحبه «أنت حتحاسب على كل المشاريب خليك برنس المرحلة وشوف حتشرب ايه»، ماذا يقدم هذا النوع من المدعين وأى فائدة قد تعود على القارئ من هذه المخلفات العشوائية؟ والغريب أن هذه النوعيات من الإصدارات يتم تدشينها فى معرض الكتاب، بينما مثلا فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب تم منع معظم النوعيات التى تقترب لهذا المنحى الذى يشكل خطرا على اللغة والذوق العام وكان هناك قرار يقول حرفيا إن هذه الإصدارات مكانها جلسات المخمورين وفاقدى الموهبة.
ربما علينا أن نقول إن هذا التخاذل من قبل الهيئات المعنية فى محاربة هذه الإصدارات ومنعها بشكل قاطع حتى إذا اقتضى الأمر تشريع قانون مرفق به مواصفات قياسية للعمل الذى توافق عليه دور النشر وتعطيه ترقيما دوليا ليتم نشره وربما أيضا تكون هناك عقوبات فى شكل غرامات مادية أو معنوية تفرض على دور النشر التى تتعامل فى هذه النوعية من الإصدارات غير الصالحة للاستهلاك العقلى المتزن وهذا ينسحب أيضا على العديد من المواد الإعلامية التى لن نستطيع الحديث عنها كلها هنا، إن أكبر خطر على مجتمع يعانى فقر الدم الثقافى والمعرفى مثل مجتمعنا هو التمادى فى تفكيك أدوات الاتصال وعلى رأسهم اللغة التى تعد المعبر الوحيد للحديث لإفراغ الفكر غير المنطوق وإخراج الطرح الإبداعى فى قالب يليق به بل وهى الأداة الأساسية فى تدعيم الطرق التربوية لدى الأجيال الناشئة، الحل الوحيد حتى لا نجد ملايين من النشء يتحدثون بأسلوب العشوائيات والمنحرفين فكريا أن تتخذ الهيئات المعنية إجراءات حاسمة وربما قاسية لصد هذا الطوفان حتى يعبر الجيل الجديد هذا العصر دون أن يكون «برنس المرحلة»، وتستقيم لديه آليات التلقى والتلقين.