الخميس 12 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
زيارة المشايخ وحواديت ماسبيرو

زيارة المشايخ وحواديت ماسبيرو






فى مقابلة منذ عدة أعوام مع حجة الأدب الشعبى والفلكلور وعلم القصة المقارن دكتور رانيلا أستاذ كرسى الأدب الشعبى والفلكلور بجامعة أكسفورد.. وكنت استمع فى إحدى قاعات جامعة السربون العتيدة لمحاضرة من محاضراته الشيقة.. وبعد المحاضرة أتيح لى أن أتناقش معه فى عدة قضايا وكان اهمها الدين كعامل لخلق الانشقاقات المجتمعية على أساس عنصرة العلاقات والتمييز فكان رده شديد الإقناع لكنه فى معرض حديثة قال لى بالنص: كانت مصر حتى عهد قريب بعيدة تمامًا عن التمييز الدينى خصوصا فى العصور التى كانت فيها قوة المستعمر تضعف بشكل ما بحيث كان المستعمر يستخدم دائما سلاح التفريق على أساس الدين سواء كان يدين بالإسلام أو بالمسيحية لأنه عرف أن قوه هذا الشعب منذ عصور سحيقة فى ترابطة لذلك فإن المستعمر المسلم أى أن كان توجهه كان يعامل المسلمين المصريين على إنهم عرب (مع أنهم ليسوا كذلك بالمرة) وحاول بشتى الطرق والسوائل طمث هويتهم القبطية حتى يبعدهم كل البعد عن الجذر الرئيسى لهم ومن ثم يجعلهم على تحزب دائم مع أخوانهم فى العرق الأقباط المسيحين.
وبعد أن انتهى رانيلا من كلامه - وبالمناسبة هو قس جليل كانت أطروحته لنيل درجة الدكتوراه فى المقارنة بين قصص الأنبياء عند علماء الإسلام (الكسائى – الثعلبى – الحافظ بن عساكر – ابن القيم) وكيف أثرت قصص الأنبياء القرآنية فى تشكيل ضمير الأدب الشعبى الأوربى والعالمى.. بعد أن فرغ من كلامه أدركت بسهولة لماذا نحن دائما ننظر بازدواجية للمسيحين فى وطننا، فمعظم مسلمى مصر وهم طيبيون ومسالمون وفى فطرتهم المساواة ونبذ العنصرية لكنهم لهم صفة ازدواجية غريبة فهم يعاملون المسيحيين بكل طيبة وحب وقد تراهم أكثر من الأخوة يشاركونهم المأكل والمشرب والأحزان والأفراح بل وتجدهم أخوة فى الرضاعة أحيانا... بالرغم من ذلك تجد المسلم من داخله يأسف على المسيحين ويعتبرهم كفرة ومخالفين له فى العقيدة (مع أن الفروق اقل من كلمة بسيطة) ولعل سبب هذه الازدواجية بالأساس تلك الأفكار التى زرعها المستعمر على مدار عصور وهى أن المسيحيين كفرة (مع أنهم أهل كتاب وأهل ذمة ورعاية) ولكن السبب الأكبر هو أن الأفكار السلفية والمتشددة والوهابية بالتحديد وتحول منابر العلم الدينى من تدريس الفقه المستنير للانسياق وراء ابن تيمية والنواوى وغيره والأخذ بالظاهر دائما والتوقف عن الاجتهاد ومطابقة الفقه لروح العصر وإنكار القياس الذى هو روح الفلسفة الفقهية.. كل هذه الأسباب أدت لازدواجية الشخصية المصرية التى تدين بالإسلام.. ولكل فعل رد فعل ففى بعض الأحيان أتخذ الأقباط أيضا بعض النظرات الازدواجية فنحن نجد فى بعض الأحياء والمدن المسيحيين فى حالة من الانطوائية الاختيارية فالشاب عاكف على الذهاب للكنائس ليس للعبادة بالتحديد ولكن للانخراط داخل مجتمع أحادى يجد فيه نفسه المؤمن الوحيد والناجى الوحيد والمستحق للخلاص.. وحتى فى المجتمعات المختلطة مثل الجامعات نجد المسيحيين فى جماعات شبه منغلقة وخصوصا المداومين على الأنشطة الشبابية فى الكنائس وينطبق هذا الكلام على الأرثوذكس بشكل كبير حيث نجد الكاثوليك بكل طوائفهم والأنجليين وشهود يهوه أقل انغلاقا لأسباب كثيرة... الكل معذور والكل مشارك بجزء من الجريمة.. التمييز والتشرزم جريمة هى أول بوادر تحطم الحضارات العظيمة.
ولتعرف أن العنصرية والتمييز على أساس الدين وافد وغريب على الشعب المصرى... تعالى نرى روح الشعب ونبض قلبه أى الفلكلور والأدب الشعبى... واليوم أخترت لكم أحد الأناشيد التى تنشد فى صعيد مصر منذ أكثر من 200 عام وهو أغنية شعبية فلكلورية تقال فى زيارة المشايخ فلقد كانت زيارة المشايخ من الأمور المبهجة والمقدسة لدى شعب كان يحج منذ أكثر من أربعة آلاف عام قبل أى أمه لها حج فقد كان يذهب المصريون بالآلاف للمعابد فى صعيد مصر للحج فى معبد أمون رع الكبير فى الأقصر ثم معابد حورس وإيزيس... لذا فإن زيارة المشايخ هى مثل حج بيت الله الحرام فى مكة والحج إلى القدس... الأغنية جمعها العلامة العبقرى جاستون ماسبيرو فى كتابه عن أغانى الشعبية وقمنا مع فريق متخصص بمراجعتها فى إصدار جديد لجامعة هارفارد... المبهر فى الأغنية أنها لاتفرق بين المشايخ المسلمين والمسيحين بل إنها كما تذكر زيارة أبو الحجاج مثلا والتبرك به تذكر أيضا القديس أبو سيفين... فالكل له نفس القداسة عند المصرى السوى.. والكل له الاحترام... وحتى نكون منصفين إيضا فإن المشايخ اليهود كان لهم تأثير كبير فى ضمير الشعب المصرى بكل طوائفه وكان لهم أيضا رحلات تبريكية لكن الحملة الشعواء التى شنها بتعصب كل المثقفين العرب بعد أعلان دولة إسرائيل أدت لطمس هذه الرؤى من تاريخ الهوية المصرية الرائعة.... ومنهم على سبيل المثال لا الحصر سيدى الأمشاطى بطنطا ومقام يعقوب أبو حصيرة بديمتوه قرب دمنهور..
نعود للأغنية زيارة المشايخ وهى تغنى وقت خروج احد أهل البيت لزيارة المشايخ سواء كانت منذورة أو تبركا:
دستور يا مدركين الوادى/ وأبو الحجاج ده جدنا وجديدنا/ والمقشقش ده منجد المداجى/ دستور يا مدركين الوادي/ والشيخ جبريل ده جدنا وجديدنا/ والصابونى ده منجد المداجى/ دستور يا مدركين الوادى/ وأبو العباس ده جدنا وجديدنا/ والشيخ طايع منجد المداجى/ شجو البلد الأربعه الأجطابى/ ساكن المحجر على جدنا البغدادي/ ساكن الأقصر يوسف أبو الحجاج/ ساكنى فى جوص شيخ أحمد الطوابى/ ساكنى جنا عبد الرحيم يا جناوى/ يا شيخ أمين الفاتحة جدامك/ وأن وفج الله فوج عتابك ندبحو/ ونزين الغالى على ديوانك/ رجبتك عادى يا خوى محجبه حجابين/ ناس الشروج والغروب والكل جالو منين/ غاسل وناشر ورايح جصر أبو سيفين/ وأدعى عليك بالسعاده فوج دهر الخيل/ قبة أبو سيفين بعيدة جستني/ وأن وفج الله بالخير وندعى الزمرتي/ قبة أبو سيفين بعيدة ملفه/ وأن وفج الله نروح له بزفة/ قبة أبو سيفين بيعدة واجيل/ وأن وفج الله بالخير ندعو المزين/ قبة أبو سيفين لواوى لواوي/ دا ساكنى فى الجبل طبيب المبالي/ قبة أبو سيفين عواميده خضره/ أن دخلها العليل من الشر يبرا.
* ملحوظة: حرف الجيم فى اللهجة الصعيدى بالتبادل مع القاف على سبيل المثال رجبتك = رقبتك    وفج الله = وفق الله.