د.إبراهيم درويش
الزراعة المصرية.. من سنوات التحدى إلى الانطلاقة الشاملة
لم تكن الزراعة فى مصر يومًا مجرد نشاط اقتصادى، بل كانت دائمًا العمود الفقرى للأمن الغذائى والاستقرار الاجتماعى والسياسى. فمن رحم الأرض المصرية تشكلت الحضارة، وعلى ضفاف النيل استقر الإنسان، وارتبط بقدرة الأرض على العطاء وجود الدولة نفسها.
ومع مطلع القرن الحادى والعشرين، دخل القطاع الزراعى واحدة من أصعب مراحله، حيث تداخلت الضغوط السكانية مع ثبات الموارد المائية، وتغير المناخ، وارتفاع تكاليف الإنتاج، إلى جانب فقدان مساحات من الأراضى الخصبة بفعل التعديات.
لكن ربع القرن الممتد من 2000 إلى 2025 أثبت أن الزراعة المصرية قادرة على الصمود والتعلم والتحول، وأن الأزمات – مهما اشتدت – يمكن أن تصبح نقطة انطلاق إذا توفرت الإرادة السياسية والتخطيط العلمى.
أولًا: الزراعة المصرية مع مطلع الألفية (2000–2010)
مع بداية القرن الجديد، بلغت المساحة المزروعة نحو 8.4 مليون فدان، بينما وصلت المساحة المحصولية إلى نحو 15 مليون فدان، متركزة فى وادى النيل والدلتا.
وساهم القطاع الزراعى آنذاك بنسبة 16–17% من الناتج المحلى الإجمالى، واستوعب قرابة 28% من قوة العمل، وهو ما يعكس ثقله الاقتصادى والاجتماعى.
ورغم هذا الحضور، واجه القطاع تحديات هيكلية واضحة، أبرزها:
تفتيت الحيازات الزراعية بما حدّ من كفاءة الإنتاج.
الاعتماد شبه الكامل على الرى بالغمر وانخفاض كفاءة استخدام المياه.
ضعف الاستثمار فى الميكنة والتكنولوجيا الزراعية.
الفجوة بين البحث العلمى والتطبيق الحقلى.
ومع ذلك، نجحت الزراعة المصرية فى الحفاظ على مستويات إنتاج مستقرة، وتحقيق اكتفاء جزئى من محاصيل استراتيجية مثل القمح والأرز، وهو ما شكّل قاعدة انطلقت منها مراحل التطوير اللاحقة.
ثانيًا: التعديات على الأراضى الزراعية (2000–2013)
شهدت هذه الفترة أزمة حقيقية تمثلت فى فقدان نحو 90 ألف فدان من أجود الأراضى الزراعية، أكثر من 60% منها بعد عام 2011... وكانت خطورة هذه التعديات فى أنها طالت الأراضى الطينية الخصبة فى الدلتا، وهى أراضٍ يصعب تعويضها حتى مع التوسع فى الأراضى الصحراوية.
وأدى هذا النزيف إلى:
-1 تراجع إنتاج المحاصيل الأساسية.
-2 اتساع الفجوة الغذائية.
-3 ارتفاع فاتورة استيراد الغذاء إلى 10–12 مليار دولار سنويًا.
-4 زيادة الضغوط على قطاع الإنتاج الحيوانى بسبب نقص الأعلاف.
لكن الإيجابية الأهم أن هذه الأزمة شكّلت نقطة وعى وطنى، دفعت الدولة لاحقًا إلى اعتبار حماية الأرض الزراعية قضية أمن قومى لا تقبل التهاون.
ثالثًا: التحول الجذرى فى السياسات الزراعية بعد 2014
منذ عام 2014، بدأت الدولة إعادة صياغة فلسفة إدارة القطاع الزراعى من خلال: تشديد التشريعات الخاصة بحماية الأراضى الزراعية.والإزالة الفورية للتعديات.والإعلان بأن الأرض الزراعية خط أحمر لا يمكن المساس به....وكانت النتيجة المباشرة وقف نزيف الأراضى، واستعادة الثقة لدى المزارعين، وتهيئة مناخ ملائم لإطلاق مشروعات قومية كبرى غير مسبوقة فى تاريخ الزراعة المصرية.
رابعًا: مشروعات الاستصلاح… التوسع الأفقى الذكى
شهدت مصر خلال العقد الأخير أكبر موجة استصلاح زراعى منظم، من خلال مشروعات قومية كبرى، أبرزها:مشروع المليون ونصف المليون فدان.. والدلتا الجديدة
وتوشكى الخير..وشرق العوينات وتنمية سيناء وأسفرت هذه المشروعات ومازالت عن:
-1 رفع المساحة المزروعة إلى نحو 10.1 مليون فدان. وسوف تتم إضافة 4.5 مليون فدان فى عام 2027 إن شاء الله الى المساحة المنزرعة.. وهذا أدى إلى زيادة المساحة المحصولية إلى قرابة 20 مليون فدان.وبالطبع هذه المشروعات خلقت آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
وانعكس ذلك على زيادة دخل الفلاح عبر الزراعة التعاقدية واستخدام التقاوى الحديثة وفتح أبواب تصدير المنتجات الزراعية.
خامسًا: التوسع الأفقى حتى نهاية 2025
-1 يُعد مشروع الدلتا الجديدة أكبر مشروع استصلاح متكامل فى تاريخ مصر الحديث. وهو امتداد لمشروع مستقبل مصر الذى دخل فعليًا فى الإنتاج أكثر من 500 ألف فدان فعليًا داخل نطاق مشروع “مستقبل مصر”.ويزرع القمح، الذرة، البنجر، البطاطس، ومحاصيل العلف والخضر. وهذا المشروع يعتمد على نظم الرى الحديث والمياه المعالجة.وجدير بالذكر أن مشروع الدلتا الجديدة لم تُصمم كأرض مزروعة فقط، بل كنطاق تنموى متكامل يربط الزراعة بالصناعة والتخزين والتصدير.
2 - توشكى – المخزون الاستراتيجى للجنوب وهو رمز لإرادة الدولة المصرية وقدرتها على الإنجاز ..فقد تجاوزت المساحات المستصلحة والمزروعة 650 ألف فدان.أصبحت توشكى من أهم مناطق إنتاج القمح والذرة الصفراء.
تعتمد على مياه بحيرة ناصر مع نظم رى حديثة، ما رفع الإنتاجية الفدانية وهو الهلال الخصيب فى جنوب مصر يخدم الوجه القبلى
-3 شرق العوينات – نموذج الزراعة الصحراوية المستقرة. والمساحة المزروعة منه فعليًا تجاوزت 220 ألف فدان.وأهم المحاصيل المنزرعة فيها القمح، البرسيم الحجازى، والبطاطس التصديرية.
استخدام منضبط للمياه الجوفية والطاقة الشمسية
-4 درب الأربعين - استصلاح مرتبط بالاستقرار المجتمعى
وتم استصلاح وزراعة عشرات الآلاف من الأفدنة فى الوادى الجديد. وهو مشروع مكمل لتوشكى والعوينات ضمن رؤية تنموية متكاملة.
-5 غرب بنى سويف والمنيا
استصلاح وزراعة أكثر من 400 ألف فدان.وهما قريبين من الكثافة السكانية..وبالتالى يؤدى ذلك إلى سرعة دخول الإنتاج لقربها من الوادى والدلتا.
-6 سيناء - زراعة وأمن وتنمية فقد تم تنفيذ أكثر من 18 تجمعًا زراعيًا متكاملًا.المساحات المزروعة تُقدّر بنحو 450 ألف فدان.
وتم الاعتماد على محطات معالجة المياه العملاقة غرب القناة.
-7 مشروع المليون ونصف المليون فدان
تم استصلاح وزراعة قرابة مليون فدان فعليًا.وهو يخدم شباب الخريجين والمستثمرين فى عدة مناطق.
سادسًا: الإنتاج النباتى - العلم فى خدمة الفدان
نجح مركز البحوث الزراعية فى استنباط أصناف محسنة من:
قمح مبكر النضج وعالى الإنتاجية.
أرز موفّر للمياه.. وأصناف ذرة صفراء لسد فجوة الأعلاف.بالاضافة إلى محاصيل الخضر والبستانية للتصدير.وأسفر ذلك عن: رفع إنتاجية فدان القمح من 2.7 طن إلى أكثر من 3.3 طن.
تحسين الجودة التصديرية.
فتح أسواق جديدة وزيادة حصيلة العملة الصعبة.
سابعًا: الإنتاج الحيوانى والداجنى والسمكى
الإنتاج الحيوانى: إعادة إحياء مشروع البتلو، وتبنى برامج تحسين السلالات، والرعاية البيطرية وتوفير الأعلاف والتوسع فى المجمعات الإنتاجية، مما قلل الفجوة البروتينية وخلق فرص عمل.
الإنتاج الداجنى:بعد أزمة أنفلونزا الطيور وتدهور الثروة الداحنة فقد بذلت جهودًا كبيرة لتحقيق اكتفاء شبه كامل من الدواجن والبيض عبر مزارع آمنة ومجازر حديثة
أما الإنتاج السمكى: فهناك طفرة غير مسبوقة من خلال مشروعات بركة غليون، الفيروز، وشرق التفريعة، والعمل على إعادة تأهيل البحيرات لتوفير الأسماك فى السوق المحلية ولتتصدر مصر إفريقيا وتحتل مكانة عالمية متقدمة.
ثامنًا: إدارة المياه والزراعة الذكية
مع ثبات حصة مصر عند 55.5 مليار متر مكعب، هناك العديد من المشروعات مثل تبطين الترع والتوسع فى الرى الحديث.وإعادة استخدام مياه الصرف بعد المعالجة عبر محطات كبرى مثل المحسمة، بحر البقر، والحمام. وارتفعت كفاءة استخدام المياه من 50% إلى نحو 65–70%، مع زيادة الإنتاج دون استنزاف الموارد.
تاسعًا: التصدير وفرص العمل ودخل الفلاح
تجاوزت الصادرات الزراعية 8.6 مليون طن سنويًا.ولقد وفرت المشروعات القومية آلاف فرص العمل. مما أدى إلى تحسن دخل الفلاح عبر التقاوى الحديثة والزراعة التعاقدية.
الوقوف على أرض صلبة
وبعد ربع قرن من التحديات، تقف الزراعة المصرية اليوم على أرض صلبة. فهناك نقاط القوة واضحة مثل :توسع أفقى مدروس.وتكامل الإنتاج النباتى والحيوانى والسمكى. مما أدى إلى تحسن الأمن الغذائى وأدى إلى نمو الصادرات وتحقيق فرص العمل.
أما التحديات، فرغم استمرارها، فإن أدوات مواجهتها أصبحت أكثر نضجًا.وإذا استمرت مصر فى هذا النهج القائم على العلم والتخطيط والاستدامة، فإن القادم بلا شك أفضل، وستظل الزراعة ركيزة الأمن الغذائى، وقاطرة التنمية، وضمانة المستقبل للأجيال القادمة.






