الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
حسام وبالداتشينى وصراع على صناعة الجمال

حسام وبالداتشينى وصراع على صناعة الجمال






لعل فى بعض الدول التى تحتل مكانة معينة بين مثيلاتها فى الإنتاج الفنى يصبح أى فن غث أو عمل ليس على مستوى المقاييس التى تضعه فى مصاف الفن المتزن وقواعده يثير هذا العمل الغث نقاشا وجدلا كبيرا بل ربما أحيانا ثورة وصراع وتعود للأذهان فكرة النقد الأولى وهى ماهية الفن ودوره وفكرته وإحداثياته وهذا ما يجعلنا نؤكد أن أحيانا وجود الغث نعمة فى الفن لأن هذا الغث وهذا الخارج عن إطار القاعدة الصحيحة للفن يحرك المياه الراكدة ويثير الأذهان والعقول سواء النقدية أو التى تشتغل بالفن ذاته.. وهذا ماحدث على مدار عام فى مصر التى تعتبر بالنسبة للوطن العربى جدارا وحصنا كبيرا للفن التشكيلى وربما أيضا مركزا أكاديميا يشع على مستوى عالمنا العربى ومن ثم يصبح الغث فيها شيئًا من قبيل الخروج عن الدور المألوف والحقيقة أنه بسبب بعض المبادئ غير السوية التى انتشرت منذ عصر الفوضى الذى حدث من قبيل خمسة أعوام أصبح الفن الحقيقى فى مصر يصارع ذاته بشكل أقرب للمعركة ففاق وجود الغث ماهو موجود من فن جميل وأصبحت الفكرة الفوضوية هى التى تتحكم فى بعض معطيات الفن كحالة من انطباع فوقى لما يحدث سياسيا واجتماعيا فى مصر، سادت السنوات الماضية موجة من انهيار ما يعرف بنصب الميادين أو النحت الميدانى فظهرت قطع نحتية بين ما يمكن أن نسميه اللاذوق واللافن وأحيانا يمكن أن نسميها – العته الفنى – لما تحمله من كل معانى الاستهانة بالمتلقى والذوق العام والغريب أن معظمها قام بتنفيذها أكاديميون المفترض أنهم يعرفون جيدا قواعد الفن وحدود الذوق والمفترض أنهم أيضا يعملون تحت إطار مدرسى أكاديمى، الحقيقة أن الجمهور ذاته حكم على هذه الشرذمة من الأعمال بالموت الإكلينيكى ونظمت حملات من قبل المتلقيين والمثقفين لمقاطعتها ومن ثم أجبرت المسئولين فى العديد من الحالات إزالة العمل إلى خرج عن كل الأطر وقدم تشويها بصريا للمتلقى . لكن بين هذا الغث تظهر التحديات ومن ثم نستطيع أن نرصد حالات فنية من منطلق كل فعل له رد فعل ومن ثم كان رد الفعل للفنانين والمتخصصين الموهوبين ظهور أعمال الحقيقة جديرة بأن يتم تسجيلها فى موسوعات الفن وتاريخ الفن ذاته كعلامات مضيئة ومن بين هذه الأعمال هذا العمل المتميز والذى يقترب لحد العبقرية والذى وصل صداه لكل أنحاء الوطن لعربى، عملا نحتيا قام به فنان أكاديمى يقبض على عنان فرسه بكل ثقة والذى يسير به بعمق بين الأكاديمية والفن الراقى الذى يستند على موهبة تكاد ان تقترب لحد العبقرية، فنانا اليوم هو الفنان والأكاديمى الكبير حسام حسين والذى يعمل أكاديمياً بكلية التربية النوعية بالزقازيق والذى بهر الأجواء وكان حديث كل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى الشهرين الماضيين بعد أن قام بعمل نحتى نوعى فى أحد ميادين محافظة الشرقية والذى سوف يظل علامة من علامات الفن التشكيلى العالمية والذى لم يضاهه فيها غير فنانين عالمين كبار أمثال بالداتشينى والذى بالرغم من أن حسام لم يطلع على أعماله إلا أنه قريبا منه روحا وفنا وتقنية ولعلنا نقدم للقارئ مساحة لنقرب بين الفنانين حسام حسين وسيزار بالداتشينى الذى يقف عمله الأسطورى الكانتاوروس فى أهم ميادين باريس والذى يكاد يكون صنوا للحصان الذى قام بتنفيذه حسام حسين بالشرقية ولعلنا أيضا نحب أن نبدأ من البدايات والتى هى أطراف الخيط لفهم فكرة حسام استشعر الشكل فى العمق.. حدد المستويات المهيمنة بوضوح.. تخيل الأشكال كما لو أنها تتجه إليك.. كل شىء حى ينبثق من المركز.. يتسع من الداخل نحو الخارج.. البرونز هو الذى يقرر التضاريس.. الشىء الأساسى هو أن تُثار أن تحب.. أن تأمل أن ترتعش أن تحيا.. كن بشرا قبل أن تكون فنانا هذه النصائح التى أرساها رودان أيقونة فن النحت الحديث فى بيان عن فن النحت.. تشتعل بحرارة الشبق نحو إبداع الشكل فى الفراغ.. هكذا هو الفن الحقيقى أن تكون إنسانا قبل أن تكون فنانا أن تراهن على إدهاش المتلقى بكل ما فى يمناك من أدوات وهى فى فن النحت كثيرة ومتشعبة وتتطور كل فترة قصيرة من الزمن.. وهذا بالتحديد ما فهمه كلا من حسام حسين وسيزار بالداتشينى بحيث بحث منهما على موقعه فى الفراغ ووقاعة الكتلة التى سوف تطل على الجمهور من فراغ مزدحم فاختار كل منها موضوعا به فكرة حيوانية لتتجلى المقاييس بين عبقرية التحدى فى استخدام الخامة وبين عبقرية إثبات ماهية الفن الذى يستصيغه المتلقى وينفعل به.. ومع أن موضوع سيزار بالداتشينى هو أسطورى محض حيث يصور عمله النحتى من تكوينات الخردة الكانتاوروس وهو مخلوق أسطورى فى الأساطير الإغريقية عبارة عن حصان بجذع آدمى وهو أحد رموز البطولة والحكمة فى الفكر الإغريقى والفروسية أيضا لكن مع ذلك نجد تطابق الفكرة بين بالداتشينى وحسام حسين بحيث يصور حسين فى عملة حصاناً فى وضع سير أو سير تحفزى وربما أيضا كانت الوضعية استعراضية وجدناها عند فنانين عرب كثيرين لهم ثقلهم فى الفن التشكيلى مثل العراقى أحمد البحرانى المغرم بالأعمال العملاقة ويعود ذلك لما يشكله الخيل فى ضمير الفنان العربى.
نأتى للنقطة الأكثر صعوبة حيث استخدم كل منهم أى بالداتشينى وحسام حسين استخدما الخردة أى بقايا المعادن من تروس وجنازير وقطع حديدية مهملة وتأتى هنا الصعوبة فى استخدام هذه المادة الوحشية والصعبة جدا فى تشكيلها لإظهار هذا الكم من التناسق والتكامل فى المقاييس الحيوانية للفرس والكانتاوروس فى آن واحد التى تشكل العضلات أكثر من ستين بالمائة من تكوينه، وكانت استراتيجية بالداتشينى هى البعد عن التجسيم بنسبة مائة بالمائة لكن حسام حسين ارتفعت عنده آلية التجسيم لأكثر من ثمانين بالمائة فخرج فرسه بشكل مذهل يجسد سطوة هذا الفنان فى السيطرة على خامته الصعبة وتطويعها لسيمترية التكوين النحتى.. كان بالداتشينى يميل أكثر بحكم موضوع للون البرونز الطبيعى والذى هو قريب جدا للون طبيعة الخردة ويرجع ذلك للموضوع الأسطورى الوحشى الذى يجسده بالداتشينى فى الكانتاوروس بينما مال حسام حسين لتقنية الصقل الأكثر صعوبة بحيث استخدم الصقل والطلاء فظهر حصانه قريب جدا لخامة الاستانلس والتى لم يستخدمها غير فنانين قلائل فى الوطن العربى من بينه أحمد البحرانى أيضا. يبقى التساؤل الأكثر أهمية وهو لماذا انفعل الجمهور بهذا العمل لهذا الحد الذى اقترب من حد التقدير والدهشة ؟ الحقيقة أن هذا إن دل فإنه يدل على أن الذائقة الفنية والفطرة السليمة فى التلقى لا تموت مهما كانت الظروف بين شعوب اعتادت أن تجد بين ظهرانيها عباقرة أمثال محمود مختار وعبد البديع وغيرهما كثيرون هؤلاء لن تجد الذائقة الفنية لديهم تموت أبدا لكنها حية تتحين الظروف لتظهر وتصارع الغث وتعلى من شأن الفن الحقيقى.