الخميس 22 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عن التليفزيون وسنينه!

عن التليفزيون وسنينه!






منذ حوالى أربعين عاما جاء الأستاذ الأديب الكبير «عبدالله الطوخى» غاضبا وثائرا وساخطا، وما أن جلس إلى مكتبه وكان يجلس معه فى نفس الغرفة الأساتذة الأفاضل «علاء الدين» رحمه الله، و«صبرى موسى» شفاه الله و«زينب صادق» الأديبة الرقيقة، وراح الأستاذ عبدالله يردد كلمة واحدة وهو مستاء وغاضب تماما: «همجية.. همجية!! وأخذ يحكى الحكاية العجيبة وكيف أنه كان جالسا وسط أسرته فى منزله ثم فجأة سمع ضجة شديدة تخللها صراخ وعويل فى الشقة المجاورة له، فذهب على الفور إلى منزل جاره يستطلع الأمر الجلل، وقامت بفتح الباب ابنة ذلك الجار وكأنها تستنجد به، وكانت المفاجأة أن الرجل صاحب الشقة كان ممسكا بقطعة من الحديد انهال بها على جهاز التليفزيون حتى أصبح فتافيت صغيرة، ولم يلتفت لصرخات الزوجة والأبناء والبنات وهن يقلن له من وسط الدموع: «والنبى يا بابا بلاش تكسره»!!
فيرد عليهم بصوت عال كالرعد قائلا: أنا مش بابا.. هذا هو بابا - يقصد جهاز التليفزيون - وهو مستمر فى تحطيمه وتكسيره!!
وطالت المناقشة حول سلوك الرجل الغريب مع «التليفزيون» وعلى ما يبدو فقد حكى الأستاذ «عبدالله الطوخى» هذه الحكاية للأديب الكبير الدكتور «يوسف إدريس» الذى عبر عن دهشته بكتابة مقال بديع رائع بعنوان «ملعبة التليفزيون» أعاد نشره فيما بعد فى كتابه «الأب الغائب» وكتب يقول:
«أعجبتنى الحكاية التى قصها علينا الأديب «عبدالله الطوخى»، أعجبتنى القصة، لا لأن إنسانا فى نفسه الشجاعة على أن ينهال على جهاز تليفزيون مصرى أو عربى تحطيما وتكسيرا رغم فداحة ثمنه، ولا لأن غيرة ما قد شبت بين أب  حقيقى تزوج وخلف وأنجب أولادا وبناتا لا ليعيشوا فى التبات والنبات ويستمتع بهم وبصحبتهم، وإنما ليتسلمهم أب آخر خلفته التكنولوجيا ليتولى قيادتهم وتربيتهم ويمتص كل أوقاتهم التى كان مفروضا أن يقضوها مع آبائهم وأمهاتهم!!
أعجبتنى القصة لسبب قد لا يخطر على البال، لأنها فى حقيقة أمرها قصة مواجهة صريحة وواضحة وعنيفة بين العصر الذى نحيا فيه والعصر الذى تربى عليه آباء هذه الأيام وأمهات هذا العصر!!
منذ فجر البشرية كان الأب هو أول مدرسة يدخلها طفله ليتعلم منه القيم والسلوك والأخلاق وربما الحرفة والثقافة والمعرفة والإدراك!
وكان لكل قبيلة من القبائل تراثها الشفوى المرئى الذى تحكيه الجدة لأبنائها وأحفادها ليحكوه بدورهم لأولادهم وأحفادهم!
ثم بظهور المسرح ثم الكتاب ثم الجريدة، بدأت آباء أخرى تشارك الأب الحقيقى فى صياغة شخصية وسلوك ومدارك ابنه وحين جاءت السينما بعد هذا عمقت تلك المشاركة إلى حد كبير، ولكنها كانت مشاركة أقرب إلى التعليم «التخيلى»، منها إلى الأب أو المدرس أو المربى الحقيقى ولهذا سميناها نحن العرب «الخيالة»!
أما الكارثة الكبرى الحقيقية، وأما الانقلاب العظيم الداهم فقد جاء مع «عصر التليفزيون»، ذلك أنه لم يأت ليكون بعيدا عن متناول الأسرة أو محيطها وإنما جاء ليحتل صميم المركز فى قلب الأسرة، وهو مركز ثابت غير متحرك وغير صامت، مركز دائم التحدث والجذب، دائم الوجود عميق التأثير إلى أبعد حد، حتى إن أطفالنا أصبحوا يحفظون كلمات الإعلانات وأغانيها.
جاء ساحقا ماحقا فاصلا تماما بين عصرين، عصر ما قبل التليفزيون وعصر ما بعد التليفزيون، عصر أطفال ما قبل التليفزيون، وعصر الجيل الذى رباه التليفزيون!
وجاء ديكتوتوريا طاغيا أيضا، انكمش بجواره «الأب الحقيقى» فى ركن لا يملك حتى أن يتكلم أو يقاطع ما يدور فيه، فما أسرع ما ترتفع ألسنة أطفاله وأزواجه طالبة منه أن يسكت لأن التليفزيون يتكلم أو حتى يقطع عليهم ما يتابعونه ولو بخبر خطير يهم الأسرة جميعا وقد يغير مصير العائلة كلها!
جاء - التليفزيون - ليكون المتحدث الأول والكل له مصغون والنموذج الأول للتصرف وللكلام وللفعل، والكل له مقلدون، وحتى النموذج الأول للتسريحات والتجملات وطريقة النطق والكل لا يفعلون سوى تقليده!!
مفاجأة كبرى لم يكن يتوقعها العالم «الأول» نفسه، فما بالك ونحن حين جاء كنا لا نزال نحيا ربما فى العالم «الرابع» أو «الخامس»!!
وللمفاجأة بقية!!