أيمن عبد المجيد
لغة السلام المصرية.. بين إسكات بنادق الإقليم وإحياء الحضارة الوطنية
فى محيط إقليمى ودولى يعلو فيه صوت رصاص البنادق، وقذائف المدافع، والغارات الجوية، ويتجرع فيه المدنيون مرارة الفقد، وآلام الجروح والدمار ومعاناة اللجوء والعيش بلا مأوى، تواصل مصر جهودها الدؤوبة لإسكات البنادق وإعلاء لغة السلام، وتضميد جروح الإنسان فى البلدان الشقيقة، وتسارع الخطى فى تعظيم قدرتها الشاملة وفى القلب منها بناء الإنسان وإحياء حضارتها العريقة.
التحركات المصرية الدبلوماسية وإجراءاتها الداخلية خيوط فى نسيج الأمن والسلم الإقليمى والمجتمعى.
فعلى مستوى العمل الإقليمى، تواصل مصر جهودها المخلصة، مقدمة صوت العقل والحكمة، لوقف دائم لإطلاق النار فى فلسطين، وإنهاء معاناة أهل غزة، سعيًا لتوسيع الاعتراف الدولى بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.
تواجه مصر بصبر استراتيجى ولغة السلام مواصلة الاحتلال الإسرائيلى جرائمه بحق الإنسانية فى قطاع غزة، ومماطلته فى المفاوضات، ومحاولاته البقاء فى محور صلاح الدين، المسمى «فيلادلفيا»، بالجانب الفلسطينى المحاذى للحدود المصرية.
ومحور صلاح الدين، شريط حدودى بطول 14 كيلو مترًا، يمتد بين غزة ومصر، يشمل معبر رفح، ويعد منطقة عازلة بموجب اتفاقية السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979, وملحقاتها الأمنية التى تحول دون السيطرة العسكرية للاحتلال على المحور.
بانسحاب الاحتلال من غزة فى 15 أغسطس عام 2005، يتمسك الفلسطينيون فى المفاوضات الجارية بالانسحاب الكامل من القطاع، وترفض مصر وجود الاحتلال فى المحور الموازى للحدود المصرية، وأى سيطرة للاحتلال على الجانب الفلسطينى من معبر رفح.
محور صلاح الدين - نسبة إلى صلاح الدين الأيوبى، الذى عبر منه بجيشه من مصر إلى فلسطين لتحرير القدس- ليس الوحيد الذى يستهدف الاحتلال البقاء الدائم فيه، بل أيضًا محور الشهداء المسمى «نتساريم»، أيضًا ما يعكس نوايا الاحتلال والتفافه على المفاوضات، والعمل على إفشالها.
محور الشهداء، يفصل شمال قطاع غزة عن الوسط والجنوب، وسمى بذلك، لكثافة عدد الشهداء الذين ارتقوا به خلال الانتفاضة الأولى، ومن بينهم الشهيد الشهير محمد الدرة الذى استهدفه الاحتلال فى حضن أبيه، فيما يسميه الاحتلال نتساريم، نسبة إلى مستوطنة إسرائيلية أنشئت فى هذا المكان عام ١٩٧٢، وتم إخلاؤها فى ١٥ أغسطس ٢٠٠٥.
يعكس إصرار الاحتلال على البقاء الدائم فى محورى صلاح الدين والشهداء، ظاهريًا إحكام السيطرة الأمنية للاحتلال على القطاع، وفعليًا حصار القطاع وتحويله إلى سجن كبير بأجزاء منفصلة، لمواصلة سياسة استخدام التجويع كسلاح، بهدف جعل الحياة مستحيلة، فيتحول القطاع إلى طارد لأهله، ومن ثم تحقيق هدف تهجير سكان القطاع وإخلائه على المدى البعيد بعد فشل الاحتلال فى تحقيق ذلك بالآلة العسكرية التدميرية.
فالسيطرة على محور صلاح الدين، تعنى السيطرة على الجانب الفلسطينى من معبر رفح، وخنق القطاع بالتحكم فى المساعدات الإنسانية ومتطلبات الإعاشة، وما يلى ذلك من متطلبات إعادة الإعمار، وحركة عبور الجرحى والمصابين، فيما تؤدى السيطرة على محور الشهداء، للتحكم فى عودة المواطنين إلى شمال غزة أو وسطها وجنوبها، وتحويل المرور منها وإليها إلى رحلة معاناة يومية.
وسط تلك التحديات، تواصل مصر مساعيها لإحلال السلام، بالوصول لتسوية عادلة، باستضافة اجتماع قيادات دول الوساطة، البناء على ما تحقق فى الدوحة وما خلصت إليه اللجان الفنية الساعية لبناء توافقات حول النقاط الخلافية.
«لم يعد لدينا وقت نضيعه ولا أعذار يمكن أن تُقبل من أى طرف تبرر مزيدا من التأخير.. » كانت تلك العبارة الحاسمة فى بيان ثلاثى الوساطة المصرية الأمريكية القطرية رسالة، مفادها أن وقف إطلاق النار والتوصل لتسوية ضرورة لإنقاذ الأرواح وتقديم الإغاثة لشعب غزة، وتهدئة التوترات الإقليمية.
ففى وقف إطلاق النار والتوصل للتسوية، ووقف نزيف الدماء، وإحباط مخطط تهجير الفلسطينيين، من المؤكد مبرر لإيران للتراجع عن تهديداتها بالرد على اغتيال إسماعيل هنية، أو خفض مستواه لعملية محدودة وربما هذا ما قصده البيان بتهدئة التوترات الإقليمية.
الرئيس عبدالفتاح السيسى استقبل أمس الأول، أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى والوفد المرافق له، للبناء على جهود الوساطة، وإطلاع الرئيس على نتائج زيارة بلينكن لإسرائيل، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية، وفى هذا اللقاء أكد الرئيس السيسى أن الوقت حان لإنهاء الحرب الجارية والاحتكام لصوت العقل والحكمة وإعلاء لغة السلام والدبلوماسية، محذرًا من خطورة توسع نطاق الصراع إقليميا.
وانطلاقًا من الثوابت المصرية، أكد الرئيس السيسى وفق ما صرح به المستشار أحمد فهمى المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية، «أن حقن دماء الشعوب يجب أن يكون المحرك الرئيسى لكافة الأطراف وأن وقف إطلاق النار فى غزة يجب أن يكون بداية لاعتراف دولى أوسع بالدولة الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، باعتبار ذلك الضامن الأساسى لاستقرار المنطقة».
حقن دماء الشعوب، هدف مصرى لا يقتصر على دماء الأشقاء فى فلسطين وحدهم، فجهود مصر لإحلال السلام فى السودان لا تتوقف، وفى ليبيا والصومال ومختلف بؤر التوتر فى الإقليم، وهو ما تدركه المؤسسات الدولية المعنية وتشيد به فى مناسبات عدة.
فخلال استقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى، أمينة محمد نائبة سكرتير عام الأمم المتحدة، أمس الأول، والوفد المرافق لها، أشادت بالدور المصرى النشط فى المحافل الدولية خاصة الأمم المتحدة، ودفع مصر الدؤوب تجاه السلام والاستقرار فى المنطقة، بهدف تجنيبها مواجهة إقليمية قد تكون لها تبعات شديدة السلبية على المستوى الإقليمى والدولى.
مصر لا يقتصر دورها على الجهود الدبلوماسية، فهى تتحمل أعباء دورها الإنسانى فى استضافة اللاجئين بالمنطقة، وهو ما أعربت ممثلة الأمم المتحدة عن تقدير المؤسسة الدولية لهذا الدور وحرص الأمم المتحدة على استمرار وتكثيف التنسيق الفعال مع مصر على جميع الأصعدة.
الرئيس السيسى أكد خلال اللقاء، حرص مصر على وقف إطلاق النار بالسودان وحماية مقدرات الشعب الشقيق والدولة ومؤسساتها وسيادتها، داعيًا لتضافر الجهود الدولية والإقليمية، لتقديم كافة سبل الدعم لإنهاء الأزمة السياسية والمأساة الإنسانية التى يتعرض لها الشعب السودانى الشقيق.
هذه هى مصر التى لا تتحدث إلا بلغة السلام، ولا هدف لها إلا الحفاظ على الحقوق المشروعة للأشقاء، والحفاظ على الدولة الوطنية الشقيقة، استقلالها، وسيادتها وأمنها ومقدرات شعبها، وتواجه التحديات والعراقيل بالصبر الاستراتيجى ومواصلة العمل الدؤوب، وتعزز قدرتها الشاملة لتظل حصن الأمة وسندها القوي.
بناء الإنسان وإحياء الحضارة المصرية
المدقق فى مشهد الأحداث اليومية، وما يحركها من منهج عمل واستراتيجيات وطنية، يقرأ المستهدفات، وآليات بلوغها، ففى حين تسعى مصر جاهدة إلى تهدئة التوتر فى الإقليم وحقن دماء الأشقاء وحق الفلسطينيين فى دولة مستقلة، بالتوازى مع جهود حماية الدولة الوطنية العربية فى دول الصراع واستعادة قوة مؤسساتها وقدرتها على بسط نفوذها على أراضيها، تسعى مصر لتعظيم قدرتها الشاملة.
تعظيم القدرة الشاملة للدولة المصرية، اقتصاديًا وسياسيًا، وعسكريًا، وبشريًا، وحضاريًا، هو السبيل لتحقيق الهدف الأول والأسمى، وحماية الأمن القومى المصرى ومحدداته، فى ظل تنامى الصراعات الدولية والإقليمية.
لبلوغ مستهدفات التنمية والبناء والتعمير داخليًا، وهذا التنامى فى القدرة، ينعكس إيجابا على أمن وسلامة الوطن وشعبه، ويمتد لتعزيز القدرة على الفعل الدبلوماسى الدولى وقوة الردع التى تدعم دول الجوار متى تطلب الأمر ذلك أو طلبت حكوماتها الشرعية ذلك.
حدث ذلك فى وضع مصر خطا أحمر «سرت الجفرة» فى ليبيا فى مواجهة تدخلات خارجية لم يستطع أحد تجاوزه، والاتفاقية العسكرية بين مصر والصومال، فى مواجهة تهديدات الإرهاب والتدخلات الخارجية التى تهدد سلامة وحدة الصومال، والتدخل الإيجابى لرعاية الحوار السودانى السودانى، وقبل كل ذلك إحباط مخطط تصفية القضية الفلسطينية والحيلولة دون تهجير الاحتلال لأهالى غزة.
لعل أحد أهم مقومات القدرة الشاملة للدولة، يكمن فى بناء الإنسان، صحيًا وعلميًا وفكريًا وأخلاقيًا، وفى كل محور من محاور بناء الإنسان يمكن أن تكتب دراسات معمقة، لكن الملاحظ على المستوى الصحى.. هناك جهود ونتائج ملموسة ثمرة مبادرات وعمل دؤوب، بينها القضاء على فيروس سى وخفض قوائم الانتظار والشروع فى تطبيق التأمين الصحى الشامل، وما زال الطريق طويلا لبلوغ مستهدفات تخفيف أعباء المواطنين.
لكن ما يشعرك بالأمل ويثبت يقينك بأن استراتيجية علمية قائمة تعد المواطن المصرى لجمهورية جديدة، يجرى فيها العمل الدؤوب لإحياء الحضارة المصرية، ذلك الاجتماع الذى عقده الرئيس عبدالفتاح السيسى أمس الأول مع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى والدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف.
فى هذا اللقاء الذى عرض خلاله الدكتور أسامة خطة الوزارة لمواجهة التطرف الدينى والإرهاب بكافة صوره، ومواجهة التطرف اللادينى وتراجع القيم والأخلاقية، وتعزيز جهود عمليتى بناء الإنسان وصناعة الحضارة.
تلك المحاور بالغة الأهمية لما احتوته من شمولية وتوازن، ففى حين أدرك الوزير العالم، خطورة التطرف الدينى وما يتولد عنه من سلوك وفعل إرهابى، متعدد الأشكال، يستوجب أداء وزارة الأوقاف دورها فى مواجهته، فقد تصدى بدوره للتطرف اللادينى وتراجع القيم الأخلاقية.
فلا يقل التطرف الدينى على المجتمع خطورة، عن التطرف اللادينى الهادف إلى نشر الإلحاد، وتراجع القيم الأخلاقية، فمن كان بلا انتماء دينى وقيمى وأخلاقى لن يكون لديه انتماء لوطنه وعمله وبيئته ومجتمعه.
الفهم الصحيح للدين وتناول القضايا المعاصرة برؤية تنويرية، لا يمكن أن يتحقق بدون صياغة رسائل تنويرية انطلاقًا من فهم صحيح الدين وفقه الواقع، وتلك الرسائل الدينية التنويرية، تحتاج إلى مُرسل قائم بالاتصال لديه من الوعى والبنية المعرفية الدينية، والفقهية، والقدرة على توظيف أدوات التواصل العصرية، لإيصال رسالته للجمهور الأوسع.
وربما هذا ما دفع الرئيس عبدالفتاح السيسى، إلى التوجيه بالعناية بالأئمة والخطباء، وبرامج تأهيلهم دعويًا وعلميًا وثقافيًا، على يد كبار المتخصصين فى مجالات علوم الدين والدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، وذلك بهدف الصقل المستمر لخبراتهم، وتعزيز قدراتهم على مواكبة قضايا العصر على نحو معتدل ومستنير، وفقاً لصحيح الدين الإسلامى الحنيف.
فالقائم بالاتصال الدينى يجب أن يكون المتخصص من علماء الأزهر والأوقاف، وأن يمتلك من أدوات العصر والعلم ما يقدم به خطابا معتدلا مستنيرا يتفق وصحيح الدين الإسلامى، هذا الاعتدال الضامن للوسطية، التى تقضى على التطرف الدينى واللادينى فى الوقت ذاته.
هذا الخطاب يسهم فى البناء الفكرى للإنسان المصرى، ويعزز من قواعد القيم والأخلاق، ومن ثم يتم ترسيخ أسس الحضارة التى وصفها فضيلة الدكتور أسامة فى خطته بـ«صناعة الحضارة»، وأفضل أن أسميها «إحياء الحضارة»، فعلى أرض مصر عرف المصرى القديم التوحيد، وعبد الله الواحد، واستقبل الأنبياء، وسطر الأسس والقيم الأخلاقية غير المسبوقة التى تركها فى وصاياه على أوراق البردى وجدران المعابد والمقابر.
نحتاج لإحياء حضارتنا بمكوناتها الأخلاقية والدينية، والعملية والصناعية والإنتاجية، ونحن المصريين - بإذن الله – قادرون.
توطين الصناعة
على المستوى الصناعى هناك مبشرات، تكمن فى توطين الصناعات الحديثة مثل صناعة السيارات والإلكترونيات والبرمجيات، وهى خطوة مهمة من خلال جذب استثمارات للسوق المصرى تسهم فى خلق فرص عمل للمهندسين والفنيين المصريين، يكتسبون خلالها مهارات الصناعة وأسرارها، للانتقال فى مرحلة لاحقة لبناء صناعة وطنية 100%.
كما يسهم توطين صناعة مثل السيارات إلى خفض معدلات الإنفاق الدولارى على الاستيراد، وتوفير منتج محلى للسوق بما يسهم فى خفض معدلات التضخم وما يتبعها من استقرار الأسعار، ومنافسة محلية للسلعة المثيلة المستوردة.
على المستوى الاجتماعى وخلال كتابة هذا المقال، أُعلن عن إحالة الرئيس السيسى توصيات الحوار الوطنى بشأن الحبس الاحتياطى إلى الحكومة لاتخاذ الإجراءات التنفيذية لتفعيل التوصيات المتوافق عليها.
وهنا أشار الرئيس السيسى إلى أن الاستجابة لتوصيات الحوار الوطنى نابعة من الرغبة الصادقة فى تنفيذ أحكام الدستور المصرى والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، مؤكدًا أهمية تخفيض الحدود القصوى لمدد الحبس الاحتياطى.
يمثل القرار تعزيزا للنسيج الوطنى المصرى، فهو استجابة لتوصيات توافقية من مؤسسة الحوار الوطنى التى تمثل كل أطياف الشعب، وتفعيلا للمكتسبات الدستورية التى تحفظ حقوق الإنسان المصرى، وتطبيق عملى لفلسفة القانون والإجراءات الجنائية.
ففلسفة القانون أقرت الحبس الاحتياطى كإجراء وقائى تتخذه جهات التحقيق، للحيلولة دون هروب متهم فى جريمة خطرة أو حماية للمجتمع من متهم أو الحيلولة دون العبث بأدلة جريمة.
وهنا دعا الرئيس للحفاظ على طبيعة الحبس الاحتياطى كإجراء وقائى تستلزمه ضرورة التحقيق، دون أن يتحول لعقوبة، مع تفعيل تطبيقات بدائل الحبس الاحتياطى المختلفة.
والأهم هو توجيه الرئيس بالاهتمام بالتعويض المادى والأدبى وجبر الضرر، لمن يتعرض لحبس احتياطى خاطئ.
تلك الإجراءات والقرارات والتوجيهات والعمل الدؤوب لخفض التوتر فى الإقليم، وإسكات البنادق، مع تعزيز قوة النسيج الوطنى المصرى والإصلاحات الاقتصادية والسياسية والدعوية والأخلاقية والقانونية ما هى إلا خيوط فى نسيج واحد لتعزيز الأمن القومى المصرى خارجيًا وداخليًا وإحلال السلم والأمن الإقليمى والمجتمعى.
حفظ الله مصر