الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الثقافة العبرانية بين العداء والاستحياء

الثقافة العبرانية بين العداء والاستحياء






منذ عقدين من الزمان ونتيجة لاهتمامى الشديد بجذور الموسيقى العالمية ابتعت «شريط كاسيت» لمغنى يهودى من على شبكة الانترنت ومن موقع بريطاني، وكنت مهتم جدا بموسيقى «زوهار أرجوف»، الذى يعتبر أحد أساطير الغناء العبرانى الشرقى فى العصر الحديث، وهو يمنى ولد فى إسرائيل، كان الموقع كما ذكرت موقعًا بريطانيًا ولذلك لم أتوقع أن يتم شحن «شريط الكاسيت» من إسرائيل، وبالفعل أتى الطرد من إسرائيل وكنت فى العمل، ولما عدت وجدت الغضب يجتاح منزلنا أمى وأخوتى يهمهمون ويتوعدون، وقالت أمى بالحرف الواحد إنها شعرت بالإهانة مما قاله لها ساعى البريد: «مالقتوش غير إسرائيل تشتروا منها»، وبعد عاصفة من المشاحنات وبعد أن شرحت لوالدتى أن الموقع بريطاني، ولم أتوقع أن يشحن الشريط من إسرائيل هدأت نوعا ما.. ثم قابلت عاصفة أخرى فى مكتب البريد حينما ذهبت لاستلام الطرد.. وكان يوما شديد الصعوبة عرفت منه أننا شعب هجومى بطبعه، لا يتمتع بالصبر ليحلل المواقف جيدا، بل لعله يصنع محرماته بنفسه ويعشق تابوهاته حتى ولو كانت وهمية فلم تستدعنى مثلا أى هيئة رسمية لتعرف ما إذا كان الطرد الذى وصلنى من إسرائيل!، لكن الذى حاكمنى هو المجتمع ذاته دون أن يعرف ما وراء الحكاية.
الحقيقة أن الثقافة العبرانية فى الوطن العربى أجمع، تكاد تكون غير موجودة بين عمليتين أولها الاستحياء، فأنت إذا كنت تدرس فى قسم اللغة العبرية فى كلية الآداب تشعر وأنك تدرس على استحياء، بل كان بعض أصدقائنا يخفون أحيانا أنهم فى قسم اللغة العبرية، ولا يعتبر ذلك فى الحقيقة شيئا نفتخر به، لأن الثقافة العبرانية ليست إسرائيل التى احتلت أرض فلسطين، لكنها حالة من الاستنساخ لعدة ثقافات لونها اليهود فيما يعرف بـ«الدياسبورا – الشتات – بألوان عبرانية»، ووضعوا لها نكهات خاصة بهم، لكن هذا لا يعنى انتفاء ما يطلق عليه الثقافة العبرانية بشكل قاطع، كما كان يؤكد الأكاديمى الكبير عبدالوهاب المسيرى، الذى حاد فى بعض أجزاء «عملة الكبير» الموسوعة اليهودية عن جادة الحقيقة لأنه حمل أحيانا طابع النموذج الاختزالى الذى هاجمه هو نفسه فى بداية عمله الضخم.
ولن نتبنى مقولات ضخمة ومائعة مثل خمسة علماء يهود قلبوا التاريخ «اينيشتين – وفرويد – وماركس وغيرهم» فكل منهم يحمل ثقافة الحضارة التى تربى فيها بالرغم من بعض المؤثرات العبرانية فى أعمالهم، إلا أنهم أوربيون صرف لكن علينا أن نقول أن أحدًا فشل منظومة التعاطى مع إسرائيل وشعورنا الدائم بأننا فى مواجهة أخطبوط سام يحيك المؤامرة تلو المؤامرة، هو عدم التعاطى مع الثقافة العبرانية والتاريخ العبرانى بكل جذوره وتأثيراته ومؤثراته، دون اعتبار أن هذا عمل أكاديمى بحت لمجرد نيل رسالات الدكتوراة والماجيستير، بل ونعتبر باحثين عظماء أمثال قاسم عبده قاسم وأحمد الحملى باحثين غريبى الأطوار، لأنهما ينقبان فى التراث العبرانى وتاريخهم الحديث، بل وننتقد بعض الذين يحاولون تحليل الفكر العبرانى من غير المتخصصين وربما امتهانهم بالتطبيع.. والحقيقة أن كل الوطن العربى فى مسألة التطبيع يكذب على ذاته.. ونحن نعرف جميعا أن معظم وطننا العربى الثائر يبيع ويشترى من إسرائيل ويصدر لها الطاقة بل ويلعب معها من خلف الكواليس.. ثم يثور ويرعد ويزبد عندما يتقدم فيلم إسرائيلى مثل «بيكور ها توزوميريت» زيارة الفرقة الموسيقية للمخرج «عيران كوليرين»، لمهرجان القاهرة الدولي، مع أن الممثلين فى الفيلم هم عرب ويعتبرون نفسهم من نجوم السينما الفلسطينية مثل صالح بكرى وطارق قبطى وهشام خورى!! بل وموضوع الفيلم لاعلاقة له أساسا بالسياسة من قريب أو من بعيد، هو يشرح حالة سينمائية تبين مدى رقة وطيبة وحساسية الشعب المصرى بل إن الفيلم 80% ناطق بالعربية، وحصل على جوائز عالمية كثيرة منها جائزة مهرجان «برلين للمشاهدين»، على أى حال فإن حالة التشنج التى تصيب المفكرين فى الوطن العربى حينما يسمعون مصطلح مطاط مثل التطبيع، أحيانا تكون مبالغ فيها لإثبات حالة من الوطنية فى مقابل إسقاط فكرة خلاقة وهى دراسة هذا الآخر الذى نكاد لانعرف عنه شيئا، ولابد أن نوضح جليا فكرة مهمة وهى أن الثقافة العبرانية ليست إسرائيل مطلقا بل إن هذا العدو على الجانب الآخر لا يشكل ولا يمثل من الثقافة العبرانية غير 20% أو أقل لكننا نتحدث عن ما هو أكبر من ذلك، نتحدث عن شعب الشتان فى كل دول العالم قبل احتلال فلسطين ونتحدث عن علامات مضيئة فى تاريخ الفكر، مثلما أن هناك علامات مظلمة، فهناك موسى بن ميمون الطبيب والعالم والمستشار والناصح لصلاح الدين الأيوبى وهناك أيضا سعديا الفيومى العالم والفقيه وهناك عنان بن داوود، الذى تأثر بالإسلام قلبا وقالبا من خلال علاقته الوثيقة بالإمام أبو حنيفة، حتى أن جماعته – اليهود القرائين – كان البعض يعتبرهم فى أوروبا أحد طوائف المسلمين .. فليس من المنطقى أن نرى فقط «هرتزل وكاهانا وبن جوريون» ونمحو بهم جزءا كبيرا من ثقافة الآخر.
والنقطة الأهم أنه لندحض فكرة تفوق وقوة الآخر ونكشف كذبه، علينا تفنيد ثقافته وإرجاعها لمسبباتها ووشائجها الأولى، فلقد نشأت إسرائيل على حلقات فكرية متعاقبة من التزوير واختلاق تاريخ غير موجود استنادا على تاريخ توراتى مختلق، كما وصل لذلك مفكرون عظماء مثل «دكتور كيت وايتلام صاحب المؤلف الرائع إسكات التاريخ الفلسطينى واختراع إسرائيل، ولم يتأت له ولمدرسة نقد الخطاب التاريخى الصهيونى ذلك إلا من خلال الغوص فى تضاعيف الفكر والتراث التوراتى منذ عصر السبى الأول بل ومنذ سفر الخروج.
وليس من قبيل المبالغة أن نؤكد أن إسرائيل من الداخل مفتتة ومنقسمة وغير متجانسة ومسخا شائنها لا يمثل مجتمعا سويا كما يعتقد البعض، فالناظر لحال اليهود المصريين على سبيل المثال لا الحصر يجد أنهم لا يعيشون فى إسرائيل فعليا بل هم يعيشون فى سياج خاص بهم اسمه «مصر فى الشتات»، مما جعل الأغلبية منهم يعتبرون نفسهم مصريون ويمارسون حياتهم المصرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهناك عشرات الآلاف من الأسماء والحكايات أمثال «البرت مغربى وفيلكس مزراحى والبرت شتريت»، وحتى إن هناك من عشرات الآلاف أيضا من اكتشف خدعة دولة أسرائيل المختلقة فهاجر منها لأمريكا وأوروبا على الفور بل وظلو مصريين قبل كل شىء، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يجيدوا اللغات الأخرى إلا بقدر الحاجة مثل المليونير المصرى اليهودى «جابريل شحيبر»، الذى عاش فى كوبا وأمريكا ستين عاما ولم يكن يستمع إلا للموسيقى والغناء المصرى ولم يكن يتكلم غير العربية فقط.
كما أن معرفة لغة قوم تأمنك شرهم فإن معرفة ثقافة قوم تفكك لك أكاذيبهم وتعطيك نقطة تقدم ذهبية.