الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض..!!

أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض..!!






أربعة وثلاثون عاما مرت على رحيل الشاعر الكبير أمل دنقل، الذى تمر ذكرى رحيله هذه الأيام، فقد أدهش العالم العربى بأشعاره المتفردة، ورؤاه العميقة المستقاة من التراث العربى الثرى، الذى هضمه جيدا وصاغه فى قصائد وجدانية درامية، لم يسبقه أحد إليه بهذا التمكن والفرادة بل أصبحت له بصمة لا تخطئها العين ولا الأذن التى تستمع لقصائده، أثار العديد من المعارك الأدبية فى حياته، لاعتداده بنفسه وثقته بموهبته وثقافته الرفيعة، وظل محاربا عنيدا مؤمنا بآرائه التى لا يحيد عنها أبدا، فصار مثل اللون الواضح فى قوس قزح، وصرخ مع من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته «لا تصالح» قائلا:
«لا تصالح!../ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى..؟/ هى أشياء لا تشترى/ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك..الخ».
قالها أمل دنقل وأبرأ ذمته للتاريخ، ورحل وكأنه كان يرى ما سوف يحدث، وتنبأ به حينما كتب قصائد المجموعة «أقوال جديدة عن حرب البسوس ما بين عام 1976-1977 تنبأ بما يحدث الآن على أرض فلسطين، من قتل وتشريد وهدم للبيوت، وموقف العربى المخزى تجاه هذه القضية، قالها - أمل - وحدثت بعدها معاهدة كامب ديفيد التى كبلتنا وجعلت العربى يأخذ موقف المتفرج على أخيه العربى، وفى أحد مقالاته فى مجلة «آفاق عربية» عام 1981، قال: «حاولت أن أقدم هذه المجموعة عن حرب البسوس التى استمرت أربعين سنة عن طريق رؤية معاصرة، وقد حاولت أن أجعل من كليب رمزا للمجد العربى القتيل، أو للأرض العربية السليبة، التى تريد أن تعود للحياة مرة أخرى، ولا نرى سبيلا لعودتها أو بالأحرى إعادتها إلا بالدم، وبالدم وحده، وهذه المجموعة عن قصائد مختلفة، استحضرت شخصيات الحرب وجعلت كلا منها تدلى بشهادتها التاريخية حول رؤيتها الخاصة.. ومن الطبيعى أن يكون لكل من هذه الشخصيات شهادتها المختلفة عن شهادة الأخرى.
«لا تصالح../ ولو حرمتك الرقاد/ صرخات الندامة/ وتذكر../ إذا لأن قلبك للنسوة اللابسات السواد/ ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة/ أن بنت أخيك اليمامة/ زهرة تتسربل – فى سنوات الصبا –/ بثياب الحداد.. إلخ».
دائما كان يتنبأ أمل دنقل بما سيحدث له وللوطن، ففى العشرين من عمره، ذكر أنه لابد منتحراً فى الثلاثين، وفى الثلاثين أكد أن حياته لابد وأن تنتهى فى الأربعين، فبعد صراع طويل مع المرض ذاق خلالها العذابات، وبعد المواجهة الصعبة بين الموت والحياة أثبت أمل أن الحياة أولا، وبعدها يأتى الموت، أمضى أمل دنقل عاما ونصف العام فى الحجرة رقم «8» بالمعهد القومى للأورام، أنجز خلالها ديوانه الأخير: «أوراق الغرفة 8» لتصفو تجربته الشعرية وتشف بشفافية الروح التى تصعد إلى بارئها، يقول:
«فى غرف العمليات/ كان نقاب الأطباء أبيض/ لون المعاطف أبيض/ تاج الحكيمات أبيض/ أردية الراهبات/الملاءات/ لون الأسرة/ أربطة الشاش والقطن/ قرص المنوم/ أنبوبة المصل/ كوب اللبن/ كل هذا البياض يشيع بقلبى الوهن/ كل هذا البياض يذكرنى بالكفن.. الخ»
لم يمنع المرض أمل فى أيامه الأخيرة من مراودة حلمه الوحيد القصيدة، ظل يصارع الموت أملا أن يعيش حتى يكمل مشروعه الشعرى المتفرد، ولكن العمر لم يمهله أكثر من ذلك، وكما قال الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى: كان السرطان يأخذ من جسده الناحل فتزداد روحه تألقا وجبروتا حتى كان باستطاعة زواره وعائديه أن يروا صراعه مع الموت، رأى العين.. صراعا بين متكافئين «الموت والشعر».
  هكذا غنى أمل دنقل للحياة وإنسانيتها دون رهبة أو خوف، ليسقط جسده النحيل بعد هذا الصراع الطويل مع المرض لينتصر الموت فى النهاية وتصعد روحه إلى السماء.