الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كمال الدين بهزاد وذروة التصوير فى الفن الإسلامى

كمال الدين بهزاد وذروة التصوير فى الفن الإسلامى






لا نعرف بالتحديد ما إذا كانت الحضارات التى استعمرت الأقاليم الإسلامية منذ القرن الثامن عشر قد طمست الهوية الفنية لهذه الحضارة بشكل أو بآخر سواء من خلال تدمير غير متعمد أو سرقة مخلفات العصر الإسلامى الزاهر لكن علينا أن نسلم بأن الاستعمار قام بتفكيك ما يعرف ببقايا الحضارة الإسلامية لصالح ما يعرف بإعادة الخطاب الإستشراقى بصورة تتناسب ووجهة نظره هو وهى وجهة نظر تخدم أهدافه كمستعمر ولا نستطيع أن نجزم بالتحديد ماذا حدث وخصوصا فى الأقاليم الشرق أوسطية التى اختفى فيها ما يعرف بالطقس الفنى الإسلامى والذى هو جزء من طقس كبير حضارى متزن ويعتبر الفن الإسلامى جزءا من البروتوكول الإسلامي، ودعنا لا نكن منحازين وننسب الحضارة لدين معين ولكن هذا النسب هنا للتعميم الذى يحصر القيادة والحكم فى يد القادة المسلمين المتنورين الذين أدركوا منذ دخولهم الأقاليم ذات الحضارات المتقدمة والعظيمة مثل مصر والشام أن الاستفادة القصوى من هذه الحضارات شيء مهم لكى يكون هناك مايعرف بالحضارة الإسلامية فيما بعد ومن ثم الاستفادة من العنصر البشرى المتعلم والمتنور فى هذه الأقاليم وحتى إن لم يدخلوا فى الإسلام مثل القبط فى مصر والسريان فى الشام والذين شكلوا قطبى القيادة الحقيقية فى الفكر والحضارة الإسلامية فيما بعد، لكن على الجانب الآخر أى فى الأقاليم الفارسية والبابلية كانت الأمور مختلفة بشكل كبير حيث كانت الحضارة هناك هى الحضارة ذاتها الأصلية مثل الحضارة الفارسية التى ظلت على أصولها قبل الإسلام لكنها أخذت المقومات الإسلامية وخصوصا المقومات الأدبية وانطلقت من خلالها لتصنع حضارة لها مذاق خاص وممتع ونادر وهى الحضارة الفارسية بعد دخول الإسلام واختلطت فيها الأعراق الفارسية والمغولية والأفغانية وغيرها كثير حتى إن معظم الباحثين الأوروبيين حينما يتكلمون عن الفن الإسلامى وخصوصا فن التصوير فإنهم يقصدون بشكل عام التصوير فى الأقاليم الفارسية والمغولية والهند فيما بعد، ولعل من المنصف أن نقسم فن التصوير الإسلامى لنوعين من الناحية الجغرافية فن التصوير فى الأقاليم الشرق أوسطية وبدايته كانت فى سوريا فى العصر الإسلامى الأول بعد فتح الشام وكان يتركز فى رسم الحوائط  بمشاهد من الحياة بطريقة أقرب لفن الفرسك – رسم بالألوان على الجبس الطرى – ومن بين هذه النماذج ما وجد فى حوائط القصور فى العصر الأموى مثل قصر خربة المفجر ثم اختفى شيئا فشيئا وحل محله رسم الزخارف والأشكال النباتية والذى ربما انتشر بعد ذلك نتيجة لتضارب أهل الفقه فى مشروعية رسم الأشخاص والتصوير عامة.
أما النوع الثانى من التصوير الإسلامى فكان فى الأقاليم الفارسية والعراق وباقى الأقاليم الإسلامية الآسيوية وحيث تأثر الرسم هناك بشكل كبير بأساليب الفن الأسيوى وخصوصا الذى نقله المغول عن الصين بعد احتلالهم للصين فترة طويلة ثم دخولهم الدويلات الإسلامية واعتناقهم الإسلام ولذا لا يستغرب المشاهد العادى عندما يرى معظم الرسوم الإسلامية التى تصور الشخوص عبارة عن وجوه آسيوية خالصة فى معظم الأحيان وحتى عصر فنان اليوم كمال الدين بهزاد، هذا النوع من التصوير الإسلامى ظل يتطور بشكل كبير نتيجة لتأثر المذاهب الفارسية بالفلسفات القديمة وحيث لم يؤثر عليها الفقه المتشدد الذى عارض فى بعض أجزاءه التصوير وخصوصا المخلوقات ذات الروح مثل الإنسان والحيوان، وظلت فارس دائما قريبة العهد من المدارس الفلسفية الإغريقية التى انتقلت إليها فى عهد كسرى أنوشروان والذى استضاف مدارس أثينا بعد أن طردتها المسيحية وبنى لها مدينة جنديسابور خصيصا – نيشابور حاليا – ، إذن ركزت مدرسة فارس على التشخيص دون غضاضة فى المسألة الفقهية وخصوصا أن هذه المدرسة هى المدرسة الإسلامية فى الإليستريشن – الرسم داخل الكتب – ولعلها دون شك من أوائل مدارس الإليستريشن بمعناه المتخصص فى التاريخ ونقصد هنا فن المنمنمات أو الرسم بمقاييس رسم صغير وكلمة منمنمة تعنى الشيء الصغير جدا والمقصود هنا رسم الأشياء ذات الحجم الصغير مثل الإنسان بحجم صغير ليتناسب مع أوراق الكتب وهكذا يعرف فن المنمنمات بفن الرسم داخل المخطوطات وحيث اشتهرت مخطوطات بأنها المثالية فى مسألة المنمنمات ومعظمها أنتجت فى فارس والعراق مثل منمنمة بستان سعدى ومحمد نظامى الكنجوى والشاهنامه وكذلك منمنمات علمية مثل كتاب الدواء لابن البيطار.
الحقيقة أن كمال الدين بهزاد الفنان الفارسى الكبير الذى عاش فى القرن الخامس عشر الميلادى يعتبره المتخصصون والدارسون للفن الإسلامى هو سنام فن التصوير الإسلامى وهو المثال الذى يجب أن يقارن عليه كل أعمال التصوير فى هذه الحقبة الذهبية ويؤكد هذا الرأى د.مايكل برى وبروفيسور بوكسبرو والعديد من متخصصى الفن الإسلامي.
الحقيقة أن كمال الدين بهزاد يعد من الناحية العرقية أفغانيا وليس فارسيا لكنه عاش فى كنف الحضارة الفارسية وحكام الفرس وحيث ولد وعاش شرخ شبابه فى هراة وهى من أقاليم أفغانستان التى كانت تابعة للحكم الفارسي، ويعتبر كمال الدين بهزاد هو عمدة التصوير المعروف بالمنمنمات والحقيقة أن ظروف بهزاد هى التى قادته أن يصبح هذا الفنان الأسطورى التى تتخبط سيرته ولا نكاد نعرف عن حياته الكثير وقبل أن نتحدث عن حياته علينا أن نشرح أسباب تفوق بهزاد ومدرسته فى فن التصوير وأول هذه الأسباب هو أن بهزاد نعم بحماية كبيرة من الشخصيات العليا فى عصره فبعد أن ولد كمال الدين بهزاد يتيما فى هراة فى الحقبة التيمورية – فترة حكم تيمور لنك وخلفائه – تعهده فنان كبير برع فى رسم الحوائط وهو الفنان ميراق نقاش ومن اسمه يتضح انه كان شهيرا حتى أن فنه أصبح لقبا لاسمه وبعد أن عاش فترة يعمل مع ميراق نقاش دخل فى حماية الأمير - مير على شير- ثم عمل فى بلاط السلطان التيمورى الشهير حسين بايقر والذى اهتم كثيرا بكمال الدين بهزاد حتى قال بعض المؤرخين أن حسين بايقر حينما دارت رحى الحرب فى هراة خاف بايقر على بهزاد وكأنه من نفائس ما يملك فوضعه فى قبو سرى فى قصره حتى لا يتعرض للأذى فى أثناء الحرب، لكن لما سقطت هراه وعرف الشاه إسماعيل الصفوى بأمر كمال الدين بهزاد آمنه وأكرمه وجعله من خواصه وعينة رئيسا للمكتبة السلطانية فى تبريز وحيث انطلق بهزاد وأصبح الأسطورة التى خلبت أنظار الغرب قبل الشرق.
تقلب بهزاد فى ثلاث مدارس فنية وهى المدرسة التيمورية وهى مغولية صرفة وتتجاهل مثل مثيلاتها من المدارس الشرقية فى الرسم القواعد التى تعطى للرائى عمقا للعمل الفنى مثل التضاؤل النسبى ومراعاة فن المنظور وهى نفس أطار المدارس الشرقية كلها بداية من المدرسة الفرعونية وحتى المدرسة الصفوية التى كان بهزاد درتها، والمدرسة الثانية التى تأثر بها بهزاد هى مدرسة تبريز والتى تميز أحد أهم ثلاثة مدارس فارسية فى التصوير لازالت تحتفظ بقواعدها حتى الآن فى الفن الشعبى والسجاد فى إيران وهى مدرسة أصفهان وشيراز وتبريز، لكن كمال الدين بهزاد لم يسر على هذه المدارس بشكل حرفى لكنه تأثر بها وخرج لنا بمدرسته الخاصة التى عرفت فيما بعد بمدرسة كمال الدين بهزاد وجماعته والذى كان منهم الفنان الهندى المغولى مسكينا فى عهد الإمبراطورية المغولية فى الهند.
يعتبر أهم أسباب تفوق بهزاد هو تشبع الحضارة الفارسية بالحكى العربى الذى دفعت  بهزاد لتطوير أدواته وتقنياته ليتواكب مع الحدث الدرامى فى السرد العربى وهنا يجب أن نقول أن بهزاد يدين بالكثير للأدباء الفرس الذين بدورهم يدينون للأدب العربى والقصص القرآنى بإبداعاتهم فى هذه الحقبة  بحيث انتشرت المخمسات فى بلاد فارس وهى إعادة صياغة وكتابة قصص العشق الشهيرة ومنها يوسف وزليخة وقيس وليلى وغيرهم بالإضافة لقصة فارسية وهى شيرين وخسرو وهى أشهر حكايات العشق الفارسية قبل الإسلام، وكان من عادة الأدباء الفرس أن يعيدو كتابة هذه القصص الخمسة حتى يثبتوا أستاذيتهم وعلى رأسهم محمد نظامى الكنجوى والذى برع كمال بهزاد فى تصوير مخطوطته وفيها أشهر أعماله الفنية – زليخة تحاول إغواء يوسف – وتتبدى فيها كل مقومات مدرسة بهزاد الفنية حيث نجده يهتم كثيرا بتصوير الطراز المعمارى الهندسى مع الاحتفاظ بمساحات خالية حول الصورة كما أنه يصور لنا ماوراء الحوائط كما يقول بروكسبرو وهو يرسى تقليد أتبعه أيضا جماعته بعد ذلك والذى يقال أنهم كانو يوقعون بعض الأعمال باسمه حتى بعد وفاته.
ابتعد كمال بهزاد رويدا رويدا عن عادة الإفراط فى التذهيب والتى كانت عادة وطقس عند رسامى المنمنمات بحيث كانو يستخدمون اللون الذهبى بإفراط، أيضا وجدنا بعض الحيوية تطرأ على شخوص بهزاد والخروج نوعا ما عن جمود اللامنظور الذى كان فى الدارس التى سبقته ويعود ذلك أنه أهتم كثيرا بالحركة فى المشهد الدرامى وكانت هذه خطوه لم يسبقه إليها أحد من الرسامين الشرقيين كما وجدنا أن الوجوه المغولية بدأت فى الاقتراب من الملامح العربية والفارسية حتى أن بهزاد صبغ وجه قيس فى بعض المنمنمات باللون الخمرى حتى يضفى عليه الشكل العربى وفى هذا الصدد يقول الفنان المغولى الكبير زهير الدين بابر أن بهزاد أفضل من رسم الوجوه ذات اللحى.
يعتبر بهزاد أيقونة الرسم الإسلامى ورائد من رواد فن المنمنمات ويعتبره الغرب هو المثال الأكمل على فن التصوير الإسلامى وتعتبر أعمالة من أغلى المقتنيات فى المتاحف الأوربية، توفى كمال الدين بهزاد فى كنف الشاه إسماعيل الصفوى بتبريز عام 1535 ميلادية.