الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
ملائكة القزوينى بين التراث الإسلامى والأيقونة الأصفهانية

ملائكة القزوينى بين التراث الإسلامى والأيقونة الأصفهانية






منذ بضع سنوات وفى قسم الدراسات الشرقية بالكوليج دى فرانس دار نقاش حامى الوطيس بيننا وبين الدكتور ماكس براون وهو أحد الأكاديميين العتاة فى مسألة الحضارة وتحليل مقوماتها حيث كان النقاش بينى وبينه دائر حول ما إذا كانت الحضارة الإسلامية حضارة فن وتذوق من عدمه وخصوصا الفنون البصرية وكان رأيه بالطبع مثل آراء كثير من المستشرقين الذين رأوا أن الإسلام حارب الفنون البصرية وخصوصا تلك التى تقوم بالتجسيد والتجسيم ومحاكاة المخلوقات والحقيقة أننى لم أستشعر أى رهبة فى الرد على أكاديمى كبير مثل براون لسببين أولهما أن رأى براون وجماعته أصبح رأيا باليا فنده وفند مزاعمه أكاديميون كبار مثل مايكل بيرى أستاذ الفن الإسلامى بجامعة نيويورك ومستشرقين أيضا كبار مثل كربين وجينو – قبل أن ينخرط فى التصوف – ومن ثم لم أعدم الحجة فى المناقشة بل وأعتقد أننى وفقت لحد كبير فى قلب الفكرة عند براون، الحقيقة أننى كنت أعتمد فى النقاش على خصائص التصوير الإسلامى منذ عهد بنى أمية وحتى نهايات القرن الخامس عشر والحقيقة أن مراجعتى القوية لأحد أهم المخطوطات فى الحضارة الإسلامية هو الذى أعطانى القوة والمنطق لتفنيد مزاعم براون وأقصد هنا مخطوطة تعتبر بحق ثورة فى عالم الفكر والثقافة الإسلامية وهى مخطوطة زكريا بن محمد القزوينى والمسماة بعجائب المخلوقات والتى عثر عليها فى مكتبة رامبور بالهند ويعود تاريخها لعام 1571 ميلادية لكن الحقيقة أن هذه ما هى إلا نسخة من المخطوطة الأصلية التى تعود لتاريخ 1240 تقريبا والفصل فى ذلك أن المخطوطة للعلامة الفارسى زكريا بن محمد القزوينى وكنيته أبو يحى والذى عاش فى القرن الثالث عشر الميلادى والحقيقة أن النسابة العرب ينسبون أصله لشبه الجزيرة العربية لكن نعتقد أن هذا افتراء فهو فارسى الأصل والمولد لكنه رحل لعدة حواضر عربية منها دمشق وبغداد والحقيقة أن المخطوطة والأعمال الفنية التى نحللها فيها هى أهم أعماله التى كتبها وهى مخطوطة عجائب المخلوقات وطرائف الموجودات والتى ألفها القزوينى وتفنن رسامى المنمنمات فى تصوير حواشيها والنسخة التى اكتشفت فى مكتبة رامبور فى الهند هى أحد أهم وأكمل النسخ الموجودة لمخطوطة القزوينى والتى خط حروفها ورسمها فنان مجهول من المدرسة الفارسى المتأخرة والتى تعود جذورها لعصر الشاه  الفارسى طهماسب، وتعود المخطوطة لنفس عصر كمال الدين بهزاد الطود الراسخ فى فن التصوير الإسلامى ولعل منفذ رسومات المخطوطة أحد تلاميذه كما عرض بذلك بعض الباحثين فى جامعة فرانكفورت منذ عدة سنوات لكن فى الحقيقة هناك اختلافًا كبيرًا من حيث تناول الموضوعات ومن حيث تنفيذ الشكل فرسام مخطوطة القزوينى يتعرض لموضوعات بعيدة تماما عن مرمى بهزاد فيطالعنا برسومات خلابة للملائكة بأسمائهم وأوصافهم كما يصور بشكل غير مسبوق موضوع هاروت وماروت الملكين اللذين أُنزلا إلى بابل بعد أن غضب عليهم الله وجردهم من نورانيتهم وهذا والحق يقال موضوع غريب ليس على الفن الإسلامى فقط لكنه على الفن العالمى قاطبة وأقصد موضوع هاروت وماروت .
يصور الناسخ الذى نسخ المخطوطة – ونعتقد أيضا أنه هو صاحب الرسم – يصور الملائكة الذين نعرفهم وهم ميكائيل وجبريل وعزرائيل وروفائيل والحفظة والملائكة الكاتبين والحقيقة أن الكثير من الباحثين مازالوا يتساءلون عن المصدر الذى استقى منه رسام مخطوطة القزوينى صور الملائكة وتكنيك تصويرهم وهو موضع حساس عند الفقهاء فى هذه الفترة والذى نعتقد أنهم حرموا الرسم دون أى سند من النص القرآنى والسنة النبوية مثل النواوى وابن تيمية وغيرهم من السلف المتشدد، لكن السؤال هنا من أين استقى القزوينى رسم الملائكة؟
بداية علينا إن نقول أن هذه الفترة وخصوصا بعد تفرع مذاهب التصوف لفروع عدة ومشارب أكثر تعددا أصبح الغنوص والبحث فى تضاعيف التراث عن وسائط نورانية مثل الملائكة شيء طبيعى وليس ببعيد عن فترة رسم المخطوطة تلك الرسمة التى أنجزها سلطان محمد للبراق وهو الطائر الغريب الذى عرج بالنبى إلى السماوات العلى فى رحلة المعراج ووجدنا فيما بعد هذا النموذج يتكرر فى معظم مخطوطات – معراج نامه – أى حكاية الإسراء والمعراج فى الفارسية، إذن فالموضوعات الدينية التى تحمل طعم الغنوص كانت قد عرفت طريقها للفن الإسلامى فى عصر تفشى وتنوع مذاهب التصوف أسوة بما كان يحدث فى أوروبا فى هذه الفترة حيث اتجهت للغنوص بل والسحر، لكن النقطة الأكثر إقناعا والتى لا يلتفت إليها كثير من الباحثين أن صور الملائكة التى أنجزها الفنان فى هذه المخطوطة تحاكى إلى حد بعيد فكرة الأيقونة المسيحية والتى لا يعرف الكثير أنها أحد أهم النماذج التى انتشرت فى معقل التصوير الإسلامى إيران وتحديدا فى أصفهان حتى إن هناك مدرسة كاملة للايقونة أسمها الأيقونة الأصفهانية التى بدأت فى القرن الرابع عشر واستمرت حتى القرن الثامن عشر وحيث دخلت لأصفهان على يد مسيحى أصفهان الذين نقلوها من البيزنطيين قبل اجتياح العثمانيين ديار بيزنطة وتحويل عاصمتهم كونيستانتينوبوليس – القسطنطينية – إلى استانبول عاصمة الترك فيما بعد، والبيزنطيين بدورهم نقلوا فن الأيقونة عن الأيقونة القبطية المصرية بحكم اشتراكهم فى مذهب الأرثوذوكس الذى تمثل فيه الأيقونة جانبا مقدسا لا ينفصل عن صلب الدين والعبادة .
نجد فى رسومات الملائكة فى مخطوطة القزوينى استنساخًا لتقنيات الأيقونة فى تفصيل الجسد وخلط البشرى بالملائكى من خلال الأجنحة التى وضعت للجسد ليصبح ملائكيا وهى عادة أول ما بدأت فى التصوير كانت فى الأيقونة القبطية التى صورت الملائكة وخاصة الملاك جبريل فى التصوير المتكرر للبشارة بميلاد السيد المسيح وفى تصوير الملاك ميخائيل وغيرهم من الملائكة وهذا بالطبع ما نقله البيزنطيون عن الأيقونة القبطية ثم دخل للأيقونة الأصفهانية ومنها للتصوير الإسلامى فأصبحت فكرة الجسد المجنح فكرة دارجة فى الفن الإسلامى فيما بعد، هذا بالطبع إذا استثنينا رسمة المعراج التى رسمها سلطان محمد لأنها فى الواقع أكثر ارتباطا بالحضارة الفارسية وبشكل لايقبل التأويل فهى تماثل المخلوقات المجنحة فى حضارة الفرس القديمة او ما نستطيع أن نطلق عليه الهولة الفارسية The Persian Sphinx .
أما بخصوص إذا كان الفنان الذى رسم المخطوطة قد اعتمد على مصادر من النص الإسلامى سواء القرآنى أو السنة النبوية الشريفة فنحن نستبعد ذلك لسببين أولهما أن معظم أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الصدد مروية عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهذا ما يجعلها تدخل فى دائرة الإسرائيليات، أيضا النص القرآنى لا يذكر عنهم من ناحية الوصف الجسدى غير أنهم أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع  وهذا غير مرتبط بما رسمه الفنان الذى رسم المخطوطة لأنه صور الملائكة جميعا بجناحين ومن ثم يكون أقرب للطقس المسيحى الأسبق عليه فى هذا الصدد.
المخطوطة محفوظة فى مكتبة جامعة كمبردج وحيث تم نقلها من الستينيات من مكتبة رامبور فى الهند ومصنفة تحت رقم MS Nn 3.74 وهى مكتوبة باللغة الفارسية مع العديد من الحكم والأقوال العربية أيضا ومحلاة برسومات عديدة فى الغالب هى من رسم الناسخ الذى كتب المخطوطة كما أسلفنا.