الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لويس عوض.. تجاهل متعمد وتراث عبقرى غير مـُستثمر

لويس عوض.. تجاهل متعمد وتراث عبقرى غير مـُستثمر






لن يدهش الكثيرين أن تمر ذكرى وفاة أحد أعمدة الثقافة المصرية د.لويس عوض دون أن يكون هناك أدنى احتفاء بذكراه، وهو ما يفتح الباب لمئات من علامات الاستفهام الكبيرة والمحيرة عن حقيقة تقديرنا لهؤلاء العظماء الذين مروا على حضارتنا العربية المعاصرة، أحيانا دون أن نلتفت إليهم والأكثر غرابة من ذلك أننا أحيانا نقوم بتكريم مفكرينا طبقا لأجندة، أحيانا قد تكون عرقية بشكل لا إرادى وغالبا ما تكون سياسية بصورة ممجوجة وغير منطقية.
لكننا هنا نحاول أن نفند ما تعرضت له إحدى منارات الفكر فى وطننا العربى وهو المفكر والمبدع والأكاديمى د.لويس عوض والذى نرى بكل وضوح التجاهل - والذى قد يكون متعمدا - الذى يعانيه شخصه وفكره خصوصا فى وطنه مصر، وما يؤلم هنا أن المحافل الدولية الأكاديمية والفكرية احتفت به احتفاء يشرف الفكر العربى ويكلل هامته بأوراق الغار على الرغم من أننا إلى الآن لم نطلق اسمه على إحدى قاعاتنا الجامعية أو حتى شوارعنا ولم نقم بعمل جائزة باسمه تمنح للتفوق فى أى من المجالات، ونؤكد هنا أن أعمال لويس عوض الفكرية هى تراث لكل البشرية وليست للعرب فقط حيث يقول وليم سكاميل المحرر الأدبى فى الاندبندنت البريطانية (التقيت بلويس عوض فى ذكرى الاحتفال بمولد شكسبير وتجاذبنا أطراف الحديث ولأول مره أشعر أن هناك خبراء غير انجليز فى الأدب الانجليزى يستطيعون أن يضيفوا لتاريخ هذا الأدب).
يعتبر لويس عوض من أهم منظرى ونقاد القرن الماضى بلا منازع خصوصا فى مجال تخصصه سواء فى الأدب الانجليزى أو الفرنسى أو حتى تاريخ الأدب الغربى عامة وإذا أردنا أن نفند هذه القضية أعوزتنا مئات بل آلاف الصفحات، لذلك سوف نلخص ذلك فى بعض النقاط التى قد تعطى للقارئ إضاءة ولو بسيطة على فكر وانجازات هذه المنارة التى مازالت تنير لنا الطريق.
بداية ينسب للويس عوض أول ترجمه لنص من نصوص الأدب اللاتينى مباشرة للغة العربية وهذه حقيقة لا مراء فيها لأن كل ما سبقه من ترجمات من الأدب اللاتينى كان عن طريق لغات وسيطة سواء عن الانجليزية أو الفرنسية وكان هذا لنص هو أهم مصنفات النقد الرومانية وهو كتاب فن الشعر (آرس بويتكا Ars Poetica) للشاعر الرومانى الأشهر هوراتيوس وهو نسخه منقحة لكتاب فن الشعر الأقدم للفيلسوف الإغريقى أرسطوطاليس، الحقيقة أن الكتاب صحبته مقدمة أكثر من عبقرية لمسألة الصراع بين القديم والحديث ومشكلة التطور فى المنتج الأدبى ولم يبخل «عوض» على قارئه بمجموعة من الهوامش السخية التى توضح ما أعجم على القارئ من جزئيات النص كما لن يدهشنا هذا الإهداء الرقيق فى مقدمة الكتاب لـ د.طه حسين الذى يعتبره لويس عوض أستاذه وقدوته.
ونأتى لعمل يعتبر هو نقطة التحول فى تاريخ لويس عوض فهو مثار اختلاف كبير سواء من وجهة نظر الأكاديميين أو المبدعين وأهل الفكر عامة وهو كتاب «مدخل إلى فقه اللغة العربية» والذى جعل كل الجبهات تفتح النار على لويس عوض بشكل غوغائى غير منظم ولا يعرف أى منهج تحليلى بل على العكس دعت الهيئات الدينية مثل الأزهر الشريف للهجوم أيضا مما جعل الرقابة على النشر تتخذ قرارا بمنع الكتاب من التداول - حتى يومنا هذا - فى مصر مما حرم جيلين من الاطلاع على هذه التحفة الفكرية والعلمية العظيمة.
وبداية يتناول لويس عوض موضوع اللغة من منظور عالم اللغة والأدب ومن منظور التطور الحضارى على أساس نظريات فى علم الفيلولوجى - فقه اللغة - متعارف عليها ومعروفة لدى الجميع، وسواء كان إخضاع اللغة العربية لهذه القواعد مشروع أكاديميا أم لا فهى مسألة تعود للأكاديميين وليس لأى قارئ أو حتى مفكر عادى، وعلينا أن نقر بداية أن علم الفيلولوجى أو هو أساسا ناشئ فى حضن الدراسات الغربية لعائلة اللغات الهند أوروبية وكانت دائما اللغات السامية - والتى تشمل اللغة العربية - فى معزل عن هذه الدراسات التى وجدت صعوبة فى إدخال لغة مثل العبرية مثلا محل هذا الجدل الفقهى اللغوى، وقد يكون تطبيق قواعد الفيلولوجى للغات الهندأوربيه على لغه سامية مثل اللغه العربية هو السبب فى أن يجانب المنطق لويس عوض أحيانا فى مصنفه الرائع، لكن الكتاب فى مجمله تحفة أكاديمية وفكرية ومرجع فى بابه ويكفيه فخرا أنه أول من وضع أصول لغتنا العربية محل المناقشة والتفنيد، لكنه لم يسلم من أقلام الرجعيين ودعاة التخلف والتشنج الدينى بل واعتبر هذا الكتاب تهجما على لغة القرآن وهذا ليس صحيحا بالمرة لأن اللغة العربية كلغة ليست «تابوه» علينا الابتعاد عنه بل على العكس بما أنها لغة القرآن فعلينا أن نصبح فى حالة دائمة من البحث فى جذور وتضاعيف هذه اللغة الثرية والعبقرية.
ولم يتعرض لويس عوض لهذه الهجمة الشرسة التى كان مثارها الجهل الأكاديمى والتوجه الدجماوى المفتعل لكنه أيضا بسب كتاباته عن أزمة الهوية كان ضحية لبطش الحقبة الناصرية التى نكلت ببعض المفكرين المتفتحين من أمثاله، فلقد أُعتقل بأمر من جمال عبد الناصر فى الستينيات وقضى فتره طويلة فى معتقل المرج، هذه الفترة التى حرم فيها من كل عالمه الفكرى فتحول لحطام وتركت هذه الفترة فى نفسه ندبة لم يستطع الزمن مداواتها حيث يقول أخوه الأكاديمى د.رمسيس عوض (ذهبت لأصطحبه حينما أفرج عنه وكنا ننتظر القطار على محطة المرج فجلس لويس يأكل ساندوتش طعمية ردىء الصنع وكان يلبس ملابس بالية وحذاء متسخًا ولما أكمل وجبته الفقيرة فى صمت نام على أحد دكك المحطة مهوش الشعر واضعا كفيه كوسادة تحت رأسه، فأخذت أنظر لهذا الشخص الذى لا يمثل لويس الذى أعرفه من قريب أو من بعيد، وأخذت أتساءل: هل هذا هو لويس عوض خريج أكبر جامعات العالم وأشهر طلابها؟!).
تعتبر أعمال لويس عوض النقدية من أهم الأعمال النقدية المكتوبة باللغة العربية فى القرن العشرين ومنها ذلك المقال الشهير التى كتبه الناقد والأديب الانجليزى جون درايدن عن الصراع بين القديم والحديث والذى ترجمه عوض وقدم له ببحث كبير فى تلك القضية، ويعتبر هذا البحث من أهم ما كتب بالعربية فى هذا الباب فلقد قارن بين المدارس الأدبية بعضها البعض ومسألة الصراع بين الحداثة والكلاسيكية وقدم فيها مقارنة رائعة بين شكسبير ودرايدن نفسه وكيف أن حداثة شكسبير الناتجة عن مراعاته لذوق معاصريه قد تفوقت على رصانة درايدن، ومراعاة لكل التقاليد الكلاسيكية المتبعة فى كتابة المسرح وقدم لنا ذلك من خلال مقارنة بين مسرحية شكسبير «انطونيو وكليوباترا» ومسرحية درايدن المسماة «كلنا فداء الحب»، وأثبت لنا عوض أن الحداثة آتية لا محالة وأن التمسك بالقواعد والقالب لا مكان له فى دنيا الإبداع المتجدد، ولعلى أؤكد بحكم دراستى المتأنية لأعمال لويس عوض أنه من الكتاب القلائل الذين يعتبر تعليقهم على النص المترجم أهم من النص المترجم ذاته وهذا ما نجده فى مصنفه الذى ترجم فيه مقال درايدن عن الصراع بين القديم والحديث.
 ولعلنا لن نخطئ القول إذا قلنا أن لويس عوض ليس فقط من كتاب النقد الأكاديمى الكبار وحسب بل هو من أهم منظرى الثقافة والحضارة فى تاريخنا الحديث والمعاصر.