الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«جون زوفانى» فنان المحارف ورائد فن التربونات

«جون زوفانى» فنان المحارف ورائد فن التربونات






الكثير يؤمن أن الفن التشكيلى جزء من المتعة البصرية والرفاهية الحسية رفاهية تشترك معظم الحواس فى الإحساس بها بداية من حاسة الإبصار التى تشكل جسرا قويا لعبور المعادل البصرى إلى العقل وبالتالى يقوم العقل بتوزيع هذه التجربة البصرية على جميع الحواس بحيث تمتص العين المشهد التشكيلى وعلى حسب القوة التأثيرية للمشهد البصرى يتم إشراك الحواس فى هذه التجربة البصرية أو بمعنى أصح يصبح المعادل البصرى لتجربة الرؤية تجربة فنية مكتملة تعبر العين إلى الفكر عن طريق تحفيز الحواس ودعنا ندلل على ذلك بمثل بسيط فحينما تقع العين على لوحة تشكيلية أو مشهد بصرى من صنع الإنسان تحاول العين ترجمة هذا المشهد إلى تيارات حسية للحواس فتنفعل الأنف وتشم رائحة الورد المرسوم أو تسمع الأذن واهمة صوت حفيف أوراق الشجر أو صوت المياه وتصل التجربة إلى عمقها حيث تتحفز حاسة اللمس لدى المتلقى فيشعر أنه يتلمس كل هذا الزخم من الأشياء التى هى مجرد تجربة متخيلة أو مبتدعة. إذن التجربة التشكيلية فى عمقها وقمتها هى تحفيز الحواس عن طريق الإبصار من خلال طرح إبداعى للألوان والضوء والظلال وتعتبر هذه العملية هى لب الفن التشكيلى ومن هنا جاءت المحاولة الدائمة لاستخلاص ماهية هذا الفن وتمييزه عن أى فن آخر أو أى محاولة لاستحضار التجربة الحسية من خلال الرؤية. ولقد حاول الكثير من المبدعين أن يقدموا رؤى مضاعفة للفن التشكيلى من خلال الإصرار الدائم على أنه أحد الفنون التى تمس الروح لكن مع عدم انكار ذلك كلية لا نستطيع أن ننكر أن الفن التشكيلى من بدايته كان يعتمد أساسا على الصنعة فى البداية وعلى تحفيز الحواس من خلال هذه الصنعة ولم يضع الفنان الأول نهائيا فكرة مخاطبة الروح بهذا الفن أو دعنا نقول هذه الصنعة لأنه فى البداية لم يكن إلا حرفيًا ماهرًا أو صانعًا ملهمًا. لكن العصور تتوالى ويصبح هذه الصانع الذى قصر صناعته على تحريك الحواس مؤهلا فكريا ومهنيا على تبنى فكرة مخاطبة الروح أو ما يطلق عليه اصطلاحا (الحواس الباطنية) وهذه المرحلة التى أصبح فيها الصانع فنانا كانت هى المنوط بها إطلاق الفن التشكيلى كنوع من أنواع تهذيب النفس وإعطائها أبعادا ترتقى فوق مستوى الحواس فأنت اذا سألت الأقدمين أو الفنانين فى العصور الكلاسيكية ما الفرق بين تمثال فينوس لبوليكليتيس وتمثال فينوس الإسبرطى القديم سوف تعرف أن فينوس القديمة كانت أكثر خفرا من فينوس الحديثة وهى بكل تفاصيل جسدها لا تعبر إلا عن خفر ووقار أما فينوس التالية والتى دأب الإغريق والرومان على تصويرها كانت أكثر عريا لكنها كانت تعبر عن اكتمال وإبداع مقاييس الجسم البشرى الأنثوى فشخصية افروديت أو فينوس والتى كانت تعتبر ربة الجمال عند الإغريق والرومان لابد وأن تكون مثالا فى اكتمال وجمال مقاييس الجسد الأنثوى وكأن الفنان يقول إن هذه هى قمة الإبداع فى المقاييس وبالتالى لم يكن العرى هنا لمخاطبة الحواس لكنه كان لمخاطبة العقل والمنطق بل والحس الهندسى لدى المتلقى. بالطبع إذا كنت تبحث عن متعة بصرية يتمزج فيها الحسى بالمعنوى فهناك الكثير من الفنانين التشكيليين الذين يمثلون هذا الخط التشكيلى العالى لكنهم على اختلاف نسب الخطاب سواء كان حسيًا أو معنويًا إلا أن هناك العديد منهم قد تميز بخاصية شديدة التميز والإبداعية وهى خاصية أو نزعة نجدها عند فنانى القرن التاسع عشر الذين عاشوا على أعتاب الكلاسيكية والرومانسية التى زخر بها القرن الثامن عشر كمحاولة أخيرا لبعث جماليات عصر النهضة وعاشوا أيضا على مشارف عصر اختراع قيم تشكيلية جديدة تعتبر بوادر أو إرهاصات المدارس الحديثة أو ما بعد الحديثة أيضا كنوع من التمرد على الموروث البصرى من كل النواحى وبالتالى كان فنانو هذا العصر التشكيليين حلقة وصل بين عدة مراحل ومدارس لكن هناك لمحات تميز كل فنان منهم على حدة وهناك أيضا طفرات فى أعمالهم تعتبر قيما جمالية كبيرة وعلامات فى تاريخ الفن التشكيلى. إذا حاولنا تقييم النصف الأول من القرن الثامن عشر وحتى السنوات الأولى للقرن التاسع عشر استطعنا أن نميز العديد من الأحداث التى أثرت فى الفن التشكيلى بشكل قوى ومن بينها ظهور الكلاسيكية الجديدة التى لا يعرف على وجه بدايتها الأولى والمعروفة ضمنا فى فرنسا لكن الحقيقة أنه كانت لها إرهاصات فى أماكن عدة منها ألمانيا وإنجلترا لكنها كما هو معروف كانت قد تبلورت فى فرنسا لكن لم تكن فرنسا هى القاصرة فقط على إنتاج مواهب وعبقريات الكلاسيكية الجديدة بل على العكس لقد كان الكثير من عباقرة الكلاسيكية الجديدة من خارج حدود فرنسا ومنهم فنان اليوم والذى كان الوحيد الذى أطلق عليه أستاذ جيله وهو الألمانى المولد الإنجليزى جون زوفانى والذى استحق عن جدارة لقب أستاذ الجيل والمقصود هنا بالجيل الفترة ما بين النصف الثانى من القرن الثامن عشر والحقبة الأولى من القرن التاسع عشر فلقد أرسى زوفانى قواعد جديدة فى الكلاسيكية الجديدة بل وألهمت أعمالة فيما بعد أجيالا لاحقة كثيرة لأنه شكل مدرسة وأسلوبا متميزا فأسس على سبيل المثال لما يعرف بال – تريبونا – أى رسم أعمل فنية شهيرة فى حيز متحفى أو حيز ضيق وعلى الرغم أنه لم يكن مبتدعا لذلك إلا أنه أرسى قواعد هذا النوع من التصوير والذى أصبح فى بعض الأحيان نوعا توثيقيا بجانب أنه جماليا فى نفس الوقت، كما يعتبر زوفانى من الفنانين القلائل فى عصره وربما فيها بعض الذين مارسوا الفن التشكيلى فى كل مستوياته سواء البورتريه بأنواعه الملكى والعام والخاص ولوحة الإعلان كذلك الفنون التقنية التى مزجت بين الفن التشكيلى والصناعة وهذا ما سوف نتحدث عنه فى معرض حديثنا عن زوفانى.
 لم يكد هذا الألمانى الذى ولد فى فرانكفورت عام 1733 وهو فى الحقيقة بوهيمى الأصل واسمه الحقيقى جوانيس جوزيفوس والتسمية هنا لاتينية على غرار الأسماء البوهيمية القديمة والحقيقة أن بوهيميا كان وحتى أوائل القرن العشرين منطقة وسطى بين فرنسا وألمانيا تنبت العديد من عظماء الفن ومنهم فى القرن العشرين لينرت ولاندروك أشهر مصور فوتوغرافى عرفه تاريخ الفوتوغرافيا «لم يكد جون زوفانى يشب عن الطوق حتى التحق للعمل فى محرف للنحت وعرف فيه الخطوط الأولى للفن وقواعده كما اكتشف موهبته فى هذه الفترة حتى بلغ السابعة عشر من العمر فرحل إلى روما لشرب هذا الفن من ينابيعه ومن ثم عمل مع أشهر أساتذة روما آنذاك وهو أوجاستينو ماسوتشى والذى عرف فى روما بأعماله النحتية الضخمة ومنها عمله الذى تحطم إبان الحرب العالمية الثانية مادونا ديل سالوتى بالقرب من سيينا وكان من أهم ما استفاد منه زوفانى فى هذه الفترة أنه تعلم التصوير على قواعدة وأسسه الكلاسيكية لأنه لم يكن يهوى أن يكمل باقى عمره كنحات أيضا لقد منحه أستاذه ماسوتشى اسمه الذى اشتهر به فيما بعد وهو زوفانى بدلا من جوسيفوس. رحل جون إلى إنجلترا عام 1760 وكان رجلا ناضجا وبما أنه لم يكن يعرف غير المحارف يظهر فيها فنه فلقد التحق بمحرف لصنع الساعات والذى كان يملكه ستيفن ريمبولت والذى أشتهر حتى أواخر القرن الثامن عشر بساعاته الشهيرة والتى تمثل قطعا فنية وليست أدوات لمعرفة الوقت وكان زوفانى يقوم برسم لوحات على ميناء الساعات ومن هنا دخل فنه بيوت الأسر الراقية خصوصا الأسرة الملكية حيث بدأ أشهر أعمال البورتريه الخاصة به وخاصة مجموعة بورتريهاته للملك جورج الثالث والملكة شارلوت والتى قام بعدة بورتريهات لها بخلفيات عدة هى وأولادها ومن ثم لفت النظر له للعائلة الملكية فى النمسا حيث ذهب هناك ونفذ أعمالا للملكة ماريا تريزا عدة بورتريهات كذلك عدة لوحات تحاكى لوحات العصر الكلاسيكى لكن معظمها فقدت إبان الحرب العالمية الثانية.
 اشتهر زوفانى أيضا بتصوير الشخصيات العامة وكان أشهر هذه الشخصيات على الإطلاق الممثل المسرحى الكبير دافيد جاريك والذى صوره فى عدة شخصيات منها هاملت والملك لير. كانت سطوته الفنية تزداد يوما بعد يوم من ستينيات القرن الثامن عشر لكنها تضاعفت بعد انضمامه لأحد المحافل البنائين الأحرار فى هذا الوقت – الماسونية – والتى يقال إنها كانت تتحكم فى المناصب العليا آنذاك فتم تعيينه كعوض فى الأكاديمية الملكية وبعدها قام برحلة داخل أوروبا درس فيها منهجه فى المحارف الكبيرة والأكاديميات الفنية. أشتهر جون زوفانى بأنه أستاذ جيله كما قلنا وربما فى فترة ما قرر زوفانى أن يدلل على عبقريته الفنية ودقة حرفته والتى ترسخت لديه من الرسم على ميناء الساعات حينما كان يعمل فى محرف ريموبلت حيث كان عليه أن يرسم لوحات كاملة متكاملة داخل ميناء ساعة لا تتعدى قطرها 4 سنتيمترات كما كان يرسم لوحات متوسطة الحجم فوق ميناء الساعات الكبيرة ومن ثم بدأ برسم ما يعرف بال تريبونا أى رسم لوحات شهيرة وأعمال فنية داخل مخزن أو صالة عرض ومن بينها تلك التريبونات التى رسمها لمخازن متحف أوفتزى الشهير وهو أحد أشهر متاحف العالم وأقدمها والذى يضم أعظم أعمال الرينيسانس والباروك بحكم وجوده فى مهد الرينيسانس مدينة فلورنسا. وعلى ما يبدو أن هذه التربونات كانت مدرسة تبعها بعد ذلك فنانون عدة مثل الرومانى بلماس وغيره كثيرين فى القرن التاسع عشر. عاش زوفانى معظم حياته فى إنجلترا ومات هناك فى ستراند اون ذا جرين ودفن فى كنيسة القديسة أنا.