الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الحضارة القبطية وإهمال متعمد من الجانبين المسيحى والإسلامى

الحضارة القبطية وإهمال متعمد من الجانبين المسيحى والإسلامى






فى وقت العصر أحب كثيرا أن أتسكع على ضفاف السين، على الضفة الموازية لطريق ريفولي، أى من ناحية اللوفر وعلى هذه الضفة بالتحديد ومنذ أكثر من مائة عام ينتشر بائعو الكتب والمطبوعات القديمة مثل سور الأزبكية تماما، تعودت أن أطالعهم بشغف أثناء سيرى على ضفة نهر السين، وحيث تكون الكتب الإنجليزية نادرة واللغات الأخرى أكثر ندرة، لذا يلفت نظرى أى عنوان باللغة الانجليزية،  ومنذ أيام عثرت على كتاب عمرة أكثر من 120 عاما للحبر الجليل جورج وليم هورنر أسقف سالسبورى الشهير، هذا الكتاب عبارة عن شرح لمخطوطة غاية فى الطرافة والإفادة وهى مخطوطة منذ عام 1306 ميلادية، أى منذ سبعمائة عام ونيف هذه المخطوطة عبارة عن كتاب للصلوات وطقوس المذبح أى كتاب تعاليم خدمة المذبح وهى مكتوبة بالعربية والقبطية بخط اليد، كما تحتوى على الأسفار الخمسة للعهد القديم باللغة القبطية والعربية، وهناك فى صدر المخطوطة حاشية كتبت بالعربية تقول أن الكتاب قد باعه القس الكبير المبجل يوحنا ابن القس أبو المننا وهو أخو القس الكبير الأنباw  يونس (وربما أيضا كان أسمه الأصلى يوناس لكن إيثارا للعربية كان يلقب بيونس) وأنه أوقف للابن أبو الخير والملقب بتاج الرياسة.. كنت فى شدة العجب حينما طالعت صفحات الكتاب وقررت أن أشتريه لأنه ثروة لا تقدر بمال واتفقت على البائع على ستين يورو بعد نضال دام ما يقرب من خمس عشرة دقيقة من الفصال، عدت للمنزل، غرقت فى الكتاب، وعرفت أشياء لم أكن أعرفها بعد أن اكتشفت أن المخطوطة قد أهداها العبقرى والرجل المستحق لكل تبجيل وإليه يرجع الفضل فى إحياء الدراسات القبطية والتى هى جزء ضخم من الحضارة المصرية الجليلة مرقص باشا سميكة، هذا الرجل الذى آل على نفسه إحياء الدراسات القبطية بشكل أكاديمى وحفظ الآثار القبطية الثمينة من الضياع فأنشأ المتحف القبطي، هذا المتحف الذى أعتبره أحد أهم المتاحف فى العالم بصفتى هاوى ودارس ومتخصص. ففى صدر الكتاب الذى يحوى المخطوطة كتب الإهداء باللغتين الانجليزية والعربية مرقص باشا سميكة وهذا نص الإهداء: (تقدمة المتواضع - فى الأصل الحقير- كرلس بطريق الكرازة المرقسية القبطية إلى قدس الأب المحترم يوحنا مطران سالسبورى لأجل طبعه وانتفاع الكنايس به، سلام الرب يشتمل جميعنا، ولله الشكر دايماً (فى 3 شهر بابة 1615).
ويحتوى الكتاب على طقوس الخدمة والصلوات باللغتين العربية والقبطية كما يحتوى على نسخة من العهد القديم ( المخمس فقط – البينتاتوخ).
الحقيقة أعادنى الكتاب لمعضلة حضارية فى وطنى الحبيب مصر وهى أننا حينما نتحدث عن الحضارة المصرية فيتبادر لذهن السامع فورا الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية وليست العربية بالطبع فنحن لسنا عربا بكل المقاييس إلى فى القوميات الحديثة.. لماذا لا نذكر الحضارة القبطية؟ الوريث الطبيعى للحضارة الفرعونية؟ أو حتى الهيلينستية؟.
هناك خلل ما حتى فى العقلية المسيحية لأنها تهمل وربما بشكل متعمد تعريف العالم بالحضارة القبطية حضارة مصر الأصيلة ... لم يعرف مستعمرونا العرب حضارتهم ولا تقدمهم إلا من هؤلاء الأقباط والسريانيين وبقايا الإغريق بل واليهود الذين ذوبوا لهم تجارب الأمم السابقة ومحو أميتهم وبداوتهم بهذا البحر الغزير من العلم والمعرفة فظهر عندهم أبن سينا وأبن رشد وأبن البيطار وغيرهم كثيرين يضيق المجال لذكرهم.
نعود للرائد العظيم مرقص باشا سميكة والذى يقول عنه البروفيسور توماس لمبرت: تدين الدراسات القبطية بالكثير لمرقص سميكة فهو قد لفت النظر للباحثين الذين جاؤوا إلى مصر للتنقيب عن حضارات مثل الإغريقية والفرعونية وحتى الإسلامية لفت نظرهم أن هناك حضارة أصيلة عاشت جنبا إلى جنب مع كل هذه الحضارات وغذتها كلها بأصالة الحضارة المصرية الشعبية القديمة.
وأضيف لحديث «لمبرت» أن الثقافة القبطية هى الوعاء الذى حفظ مصر الأرثوذكسية من التغير وقت نشوب العراك المذهبى حول طبيعة اللاهوت والناسوت، فلقد كانت القبطية هى الشيفرة التى صاغت الأصالة الأرثوذكسية أمام الرومان الملكانيين وأصبحت الطقوس التى منذ إذ تقام بالقبطية والتى هى بالأساس اللغة الديموطيقية الفرعونية القديمة تكتب بحروف يونانية مضافا عليها بضع حروف لأصوات افتقرت إليها اليونانية لذلك بدون أن يدرس شامبليون القبطية لم يكن ليصل إلى فك شفرة اللغة الهيروغليفية ولو بعد ألف عام من البحث بحيث كان إتقانه للقبطية هو بداية فكر شفرة حجر رشيد وغيره من النصوص المكتوبة بعدة لغات.
كان الرائد العظيم مرقص سميكة يجيد الانجليزية والإيطالية والفرنسية ويقرأ ويكتب بها ويتحدثها بطلاقة حيث ولد فى عائلة ممن أعرق عائلات مصر القبطية معظمهم يعملون بالسلك الدينى والقضاء وربما يكون لقب أسرة سميكة هو لقب قبطى فرعونى لأسرة قديمة كانت تعيش بالقرب من أوكسيرينخيوس (البهنسا حاليا) كما أن اسم العائلة ذكر فى عدة وثائق بيزينطية تفيد أن أسرة (سيميخا) أو (سامخا) قد تولت إيبارخية (إبرشية) الفيوم وبنى سويف مرات متعاقبة كما ذكر أسرة سميكة فى وثائق عربية عديدة مثل مخطوطات أبن دقماق (مخطوطه فى جامعة لايدن أكتشفها المستشرق هارخونيه).
إذن كان مرقص سميكة رفيع العماد حيث ولد عام 1864 وتلقى تعليمه وثقافته بشكل مكثف وعمل فى شركة السكة الحديد التى أسسها أن ذاك شركة ستفنسون نفسه مخترع القاطرة البخارية وفى عام 1906 استقال وتفرغ لمطالعة أعمال عظماء الأثريين فى الآثار القبطية حيث لفت نظرة الإهمال التى تعرضت له الآثار والدراسات القبطية فأسس جمعية الدراسات القبطية فى لندن والتى انبثقت من جمعية الدراسات المصرية التى أسسها جارونفيلد وهانت أصحاب أشهر دراسات فى علم البردية ومكتشفى مقبرة البردى فى أكسرينيخوس ، وكان مرقص سميكة مستشارا للخديوى ثم للسلطان وكان منظما كبيرا للمجلس الملى واستعان به الحكام حتى انه حصل على الباكوية ثم وسام التمايز ثم الباشوية وحصل على منحة ملكية لإنشاء المتحف القبطى واستكمل هو بالتبرعات التى تبرع بها علية القوم من الأقباط والمسلمين ومن بينهم أحمد يكن باشا الذى قال عن مرقص سميكة (الحمد لله أن فى مصر أمثال سميكة وإلا كانت ضاعت أصالة مصر القبطية).
ومن المؤلفات مرقس سميكة باشا «دليل المتحف القبطى والكنائس الأثرية» فى مجلدين باللغتين العربية والإنجليزية، كما وضع فهارس المخطوطات العربية والقبطية الموجودة بالمتحف القبطى وكذلك البطريركية.
وبالرغم من أن هذه المؤلفات عبارة عن أعمال تسجيلية إلا أنها من الأهمية أنها ظلت تستعمل منذ كتاباتها وحتى اليوم ولم تكن كتابتها سهله لأنها عبارة عن عمل شاق ومضن، ويرجع الفضل لمرقص سميكة أنه أكمل ما بدأه العلامة الكبير جاستون ماسبيرو الذى أهتم بالثار القبطية وافرد لها قسما فى المتحف المصري.
بعد أن انشأ الرائد مرقص سميكة المتحف القبطى وحفظ فيه العديد من درر الآثار القبطية ظل يتابع المخلفات الأثرية والفكرية للحضارة القبطية ومن بينها العمارة الأثرية للكنائس القديمة حتى توفى فى أكتوبر 1944 ونعته كل المجالس العلمية فى انجلترا حيث وقفت أساتذة جامعة أوكسفور حداد فى بدأ محاضراتهم يوم 4 أكتوبر اليوم الذى تلا وفاته ونعته جمعية الدراسات الكلاسيكية والجمعية المصرية والجمعية القبطية فى لندن.