الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«ثيودراكيس».. الوجه المشرق للقرن العشرين

«ثيودراكيس».. الوجه المشرق للقرن العشرين






«أنا يا مخاليس لا أعرف لى عشقا ولا وطنا إلا السلام فى الكون، الدكتاتوريون يقتلون السلام ويقودون العالم لبحار الدم مرة أخرى، وأنا منشد بسيط، فى وطنى حيث ولدت ولد الشاعر الأعمى الذى أنشد حول الحروب ليذمها ويعرض لجدواها، خيوس.. وطن الزعفران، أنا أنشد أنشودة للسلام، للأطفال النائمين على أرصفة الميناء فى بيراوس والمشردون من سيمرنا منذ عقود، السلام هو الرب الذى يجب أن نطيعه، والحب هو الحضارة التى لم نؤمن بها فسقطت بين أيدينا المدن وها نحن نسير من منفى إلى منفى».. لا نجد بين أيدينا وصفا يصف حالة هذا الرجل العظيم غير مقطع من إحدى رسائله لصديق «مخاليس» فى من منفاه فى «زاتونا»، هذا الرجل اليونانى «ميكيس ثيودراكيس» الذى وصفته هيئة عالمية مثل اليونيسكو بأنه «رجل الفن والسلام»، حصل على ألقاب يضيق بها الحصر، ولعل العالم كله يعرف «ثيودراكيس» من مقطوعته الشهيرة «رقصة زوربا» والتى كانت ضمن الموسيقى التصويرية التى وضعها للفيلم الشهير زوربا اليوناني، والحقيقة أن المقطوعة ليست له كما يعتقد البعض لكنها موسيقى شعبية شهيرة أعاد «ثيودراكيس» توزيعها لتناسب عصره ومن ثم انتشرت انتشار النار فى الهشيم وهى كما قلنا «رتم» شهير من ضمن إيقاعات موسيقى الريبيتكو الشعبية وتسمى «السيرتاكى».
نستطيع أن نقول إذا كان ديونيسوس سولوموس هو الوجه المشرق لليونان الجديدة فى القرن التاسع عشر فإن ثيودراكيس هو الوجه الأكثر إشراقا فى القرن العشرين.
وفى وصف «فاموس» دقه وتأكيد على قيمة «ثيودراكيس» كعلامة فارقة فى تاريخ الحضارة اليونانية الحديثة ومقارنته «بديونيسوس سولوموس» أبو الأدب اليونانى الحديث وصاحب الانتفاضة الهللينية - فترة متأخرة من الحضارة الإغريقية - فى القرن التاسع عشر ليست من قبيل المبالغة، فإذا افترضنا أن اليونان فيما قبل القرن التاسع عشر بين بيزنطيتها التى ليست من جذورها وبين العثمانية التى هى وافدة إذا افترضنا أنها سارت فى ثلاث حركات للوصول إلى هويتها اليونانية الحديثة فإن كل حركة من الحركات الثلاث ميزها وجه يونانى أصيل بداية بـ«سولوموس» ومرورا بـ«كفافيس» وحتى «ثيودراكيس» الذى يجمع المهتمين أنه الحركة الثالثة فى سيمفونية الصحوة الهلينية الحديثة فإذا كان «سولوموس» قد عمل على وضع أسس ولغة جديدة والتخلص من ركاكة اليونانية البيزنطية كما جاء من بعدة «كفافيس» السكندرى الذى أخذ بيد الشعر اليونانى للعالمية وسار به بين مدراس عصره جنبا إلى جنب مع شعر «ت س إليوت» و«إزرا باوند»، كما أثبت أن يونانى المهجر لا يقلون أهمية عن يونانى الوطن الأم. أما الوجه الثالث فهو موضوعنا اليوم «ثيودراكيس» والذى كان مع عظماء جيله مثل: يانيس، ريتسوس، نيكوس كزانزاكيس، وكوستا جافراس، كانوا هم نبض الحركة السياسية والفكرية والثقافية لليونان فى القرن العشرين، وعلى ما يبدو أنهم كفنانين كان وضعهم مختلف عن معظم أبناء جيلهم من فنانى أوربا فلقد شاركو بفاعلية كبيرة فى العمل السياسى وكان على رأسهم «ثيودراكيس» الذى كان من طليعة الذين شاركو بقوة فى الحراك السياسى وفى أماكن عده فلقد قبضت عليه سلطة الاحتلال الايطالى فى طرابلس بليبيا فى أواخر الأربعينيات وقامو بتعذيبه واعتقاله لأنه كان يحاول الاتصال بالثوار فى ليبيا، ولعلنا نستعجب كيف لشاب صغير فى مثل سنه يغامر بحياته ويقف ضد أكثر المستعمرين بطشا وهو المستعمر الإيطالى فى ليبيا ثم فيما بعد ضد المستعمر ذاته فى أثينا، وكان دائما يصف نفسه بأنه – فتى إغريقى وقف وحيدا ضد رصاصات البلغار والإيطاليين والألمان، وحتى بعد أن نالت اليونان استقلالها بعد اندحار الفاشية والنازية نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبح «ثيودراكيس» أكثر ثورية ونضالا حتى يقاوم ما يعرف بجامعات الضغط اليمينى الذين كانت لهم ميول تجاه أجندات لدول أخرى، ومن ثم وقفت الكتلة اليمينية ضد فكره وجماعته وتعقبوهم بالتعذيب والتنكيل والنفى وبعد نفى زميله الشاعر «يانيس ريتسوس» قبض علية عام 1946 وحدثت أغرب واقعة فى حياة «ثيودراكيس» فأثناء تعذيبه بقسوة نزف كثيرا وتوقف نبضه تماما فما كان من السلطة التى كان يقودها اليمينين آنذاك إلا أن وضعته فى المشرحة بعد أن توقف نبضه معتقدين أنه فارق الحياة ويقول «ريتسوس» فى خطاب للشاعر والمناضل الشيلى الشهير «بابلو نيرودا» وهو صديق كفاح ثيودراكيس فى السبعينيات: «بابلو المقدس، لن أخاف هذه المرة أيضا فلن أترك أثينا تحتضر تحت وطأة الجماعات المتعفنة من السفلة والمنتفعين، فى أى نكبة للوطن أبحث عن الدكتاتوريين والموالين لهم، أثينا يا عزيزى تقف عارية ويرحل أبناءها جوعى إلى أمريكا ودول أوربا الأكثر غنى، لاعليك فلقد كنت ديونيسوس جديد قتلت مرتين وحييت مرتين لقد أكل ذباب المشرحة بعضا من جفونى وكاد الدود فى المقابر أن ينخر فى عظامي، لكننى عدت للحياة، عدت لهم لأفضح سقوطهم وخطتهم لبيع الوطن».
وليس من الغريب على «ثيودراكيس» أن يعد من أهم الشخصيات الفنية والسياسية التى تدعم القضية الفلسطينية ضد عسف الاحتلال الإسرائيلى والصهيونية ولقد أعلن ذلك مرارا وكثيرا ما يقف على المسرح ملتفحا بالشال الفلسطينى الذى هو رمز القضية الفلسطينية كما أنه ألف مقطوعة سماها «أورشليم» وأهداها للمناضل الراحل ياسر عرفات وكان صديقا له.
لم يفتتن «ثيودراكيس» بالموسيقى الكلاسيكية كثيرا على الرغم من دراسته فى باريس على يد أشهر أساتذة لها لكنه فى بدايات الخمسينيات وجد أن موسيقاه فى هويته فبدأ للعودة للجذور كما فعل مواطنه الموسيقى الأشهر «فانجيليس» ومن ثم بدأ البحث فى تضاعيف الموسيقى اليونانية الأصيلة فاتجه لموسيقى الريبيتكو الشعبية والتى استقى منها كما أسلفنا إيقاع «السرتاكى» لعمله الأشهر زوربا اليونانى وحيث نشأت هذه الموسيقى الشعبية والحزينة بعد احتلال سيمرنا وتهجير أهلها قسرا، وهكذا كانت رحلته مع الجذور هى رحلة شهرته وعالميته.
كان لـ«ثيودراكيس» نصيب كبير فى الثمانينيات فى الإدارة السياسية حيث عين عضوا فى البرلمان عام 1981 تقديرا لوطنيته و نضاله الطويل وظل به حتى عام 1986 حيث تنازل عن مقعدة بعد اختلافه مع بعض الإجراءات الحكومية آنذاك لكنه ظل محل تقدير واحترام من الحكومة وبدأ فى ممارسة الموسيقى بشكل متفرغ وهذه الفترة ألف فيها أوبراته الشهيرة.