الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الشعب فوق الشعبية

الشعب فوق الشعبية






على قاعدة شعبية ثورية عريضة جاء «السيسى» إلى حكم مصر، هكذا يقول الواقع وهكذا تقول الأرقام التى حصل عليها ٢٣ مليونًا و٧٨٠ ألفًا و١٠٤ أصوات، الرقم مخيف ويمنح أى رئيس رصيدًا ضخمًا قابلًا للاستهلاك طويل المدى والجرى السياسى فى المكان، برغم ذلك فإن الرجل حسم أمره منذ اللحظة الأولى وعقد العزم على أن يتخلى تمامًا عن المنحة الثورية وعن ممارسة الخداع الاستراتيجى، الرجل واضح ومباشر لدرجة لا يزال البعض غير قادر على استيعابه.
نعم قرر السيسى السحب من رصيد شعبيته ولكن ليس على المكشوف، كل قيمة كانت تُسحب من رصيده كانت تضاف فورًا فى حساب الوطن، فإذا كان قرار التعويم سببًا فى تراجع الشعبية - كما روج البعض - فإننا نكون بصدد حقيقة جازمة تنفى نفيًا تامًا لأحد أهم أسباب أحداث يناير، لأن مبارك لم يقترب أبدًا من الدعم، كما أنها نفس الحقيقة التى تؤكد ثورة ٣٠ يونيو لأن الإخوانى المتخابر محمد مرسى لم يقترب هو الآخر من الدعم.
هنا يجب أن ندعو المصريين إلى مراجعة تصريحات الرجل المعلنة ومدى اتساقها إلى حد التطابق مع أفعاله، كما ندعو إلى الرجوع مرة أخرى إلى خطاب التنصيب فى قصر القبة عشية حلف اليمين عندما تحدث عن قيمتى الإيثار وإنكار الذات ثم اتخذهما منهجًا للعمل ألزم به نفسه قبل الجميع.
تحت شعار «مش هنبيع الوهم للناس» انطلقت حركة الرجل نحو وطنه، وأمام جموع المصريين تعهد الرجل بأن يتخذ كل القرارات الصعبة التى لم يجرؤ سابقوه على اتخاذها، أرصد تصريحاته الاستباقية ثم طابقها مع سلوكه الرئاسى المعلن ستجد تطابقًا مدهشًا، فإذا كانت الأوضاع الاقتصادية قد تدهورت طوال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك وزاد التضخم وارتفعت معدلات البطالة وتراجع الإنتاج كما تعالت الأصوات الثورية وروجت لذلك ودعت للخروج عليه، فإن المنطق يقول إن إجراءات العلاج حتمًا ستكون آلامها وأعراضها الجانبية على قدر جسامة المرض وخطورته، كل هذه الإجراءات قرر السيسى أن يتخذها ويتحمل تبعاتها، فإذا كانت إجراءات الإصلاح التى اتخذها السيسى سببًا فى تراجع شعبيته فليخرج علينا المُنادون بذلك وليستعرضوا أمام الشعب طرق بناء الشعبية وأساليب الحفاظ عليها ومضاعفتها وكيف يتم ذلك دون أن يكون على حساب بناء الوطن.
المدهش أن الكثير ممن يتكلمون عن تراجع شعبية الرجل هم أنفسهم من أصحاب الشعبيات الإعلامية دون أن يكون لهم أى إنجاز فى أى مجال حتى فى تخصصهم المعلن في الصحافة أو المحاماة أو الطب، هم يدركون تمامًا أنهم قضوا أعمارهم منشغلين بالاستثمار فى الفراغ والتمحور حوله، بل إنهم ارتكبوا جرائم فى حق الأجيال التى التف بعضها حولهم إعجابا بشعارات تلك الشعبية التى ارتفعت بسقف أحلامهم فإذا بهم يفيقون على حقيقة أنهم كانوا مستخدمين لمراكمة الثروة والشهرة من أطراف لم يكن لها أى دور سوى المزايدة على أى إنجاز أو أى حركة، للأمام حتمًا ستؤدى لأن يتجاوزهم الزمن وإفقادهم أدوارهم التى يمارسونها منذ عقود بنفس الأساليب والشعارات، وبالتالى فإن تثبيت الظرف الزمانى ولو بتزييف الوعى العام كان ولا يزال هدفًا لتلك المجموعات، وكذلك الأمر فإن أى شخص سيقود حركة تتطور بتطور الزمن سيكون هدفًا مباشرًا لهم، حتمًا التحريك للأمام سيكشف عنهم الغطاء، هم يتعاملون مع الزمن كما لو كان يمكن السيطرة عليه، وتأكد أن الكثير منهم الآن منشغل باستمرار سيرته الشعبية بعد مماته، تخيل أنهم منشغلون بِمَا سيقال عنهم بعد الموت أكثر من انشغالهم بحركة الحياة.
مجموعات أخرى منهم تجدها تتحدث بلا وعى عن تجربة الإصلاح فى سنغافورة مثلا مستعرضين نتائج التجربة المدهشة لكنهم أبدًا لا يذكرون حجم المعاناة والآلام والأثمان المدفوعة من أجل الوصول لتلك النتائج.
لا يجرؤون على مصارحة الشعب بحجم الجهد والتقشف والعمل التى بذلها الشعب السنغافورى وحكومته رغم أن مساحتها أصغر من العاصمة الإدارية الجديدة.
لايجرؤون على مصارحة الشعب المصرى أن مؤسس نهضة سنغافورة «لى كوان يو» مكث فى الحكم ثلاثة عقود متتالية، لا يجرؤون على الاعتراف بمبادئ فلسفته الاقتصادية التى بنى عليها نهضة بلاده القائمة حتى الآن.. وإليك هذه المبادئ التى دونها الرجل بنفسه وصارت دستورا للعمل والبناء تتوارثه الأجيال التى رسخ فى إذهانها مبادئه التالية:
■ لا تصبر على أنصاف الحلول.
■ تحدث من منطلق القوة.
■ لا تخش القرارات التى لا تحظى بشعبية.
■ لا تقلق من نتائج استطلاعات الرأى الشعبى.
■ لا تخش أحدا ما دامت يدك لم تتلوث بالفساد.
■ لا تخش السياسات الحادة والقاسية من أجل الوصول إلى الأوضاع الصحيحة.
هذه هى الدروس والعبر التى استخلصها الشعب السنغافورى من هذا الرجل، الذى لا تزال سيرته خالدة باعتباره منقذا لبلاده التى لم تعان ويلات الإرهاب الذى لم يكف أذاه لحظة عن الدولة المصرية.
إذا كنّا هنا نتحدث عن الأسباب المباشرة والمزعوم تسببها فى تراجع الشعبية، حسب ما يروجون، فإننا نكون بصدد الحديث المباشر عن إعادة هيكلة الدعم كمصطلح اقتصادى علمى منضبط والذى يُستغل شعبيا بعنوان إلغاء الدعم.
فهل يملك المزايدون والذين يدعون امتلاكهم مقاييس الرأى العام ومعايير قياس معدلات الشعبية؟ هل يملكون شجاعة الصدق لمواجهة جمهورهم المغرر به بحجم الدعم الذى يصل إلى غير مستحقيه وهم فى مقدمة الفئات غير المستحقة بعدما تراكمت ثرواتهم؟ هل يملكون الشجاعة الوطنية أن يواجهوا جمهورهم المخدوع بأن الإجراءات التى تم اتخاذها كانت أمرا حتميا لخفض عجز الموازنة؟ هل لديهم الشجاعة لكى يواجهوا المخدوعين بأنهم يحصلون على أسعار الطاقة بنفس الأسعار التى يحصل عليها محدودو الدخل ممن يدعون أنهم يدافعون عنهم، هل يمكنهم أن يصارحوا الرأى العام الذى يزايدون عليه بأن رفع الدعم عن الطاقة ضرورة حتمية لنمو الناتج الإجمالى المحلى؟!
الأمر الثانى هو تحرير سعر الصرف، فهل لديهم الشجاعة للمواجهة بحتمية القرار، هل يستطيعون إنكار ما ترتب على القرار من نتائج ساهمت فى إنقاذ الدولة والتى يمكن إجمالها فيما يلى:
■ خضوعه لقوى العرض والطلب.
■ زيادة حصيلة البنوك من العملة الصعبة.
■ دعم الصادرات المصرية للخارج.
■ دعم السيولة بالعملات الأجنبية داخل الجهاز المصرفى.
■ القضاء على السوق السوداء.
■ توفير معروض نقدى من الدولار.
■ ترشيد الاستيراد.
■ طمأنة المستثمر بسعر موحد للعملة.
■ إتاحة العملة الصعبة للمستوردين.
■ عودة التدفقات النقدية من العملاء إلى الجهاز المصرفى.
هل لديهم شجاعة المواجهة بتلك الحقائق؟!!
ما سبق عرضه حقائق علمية، وما تم اتخاذه من قرارات اقتصادية إصلاحية، هى خطوات حتمية، وهى بمثابة جرعات علاج اقتصادى حتمى للأورام والأدران العالقة بجسد الاقتصاد المصرى منذ سنوات، تجاهلها أو تجنب اتخاذها أو الخوف من الإقبال عليها، جريمة كاملة الأركان فى حق الوطن والأجيال، هذا من الناحية الاقتصادية والعلمية، أما من الناحية السياسية والرئاسية، فإن استخدام مقدرات الوطن ومصيره من أجل بناء شعبية مؤقتة فإنها الخيانة بعينها.
إن عبدالفتاح السيسى الذى وقف يوم 3 يوليو 2013 مرتديًا زيه العسكرى، معلنا خارطة الطريق، يأبى عليه شرفه الإنسانى والعسكرى أن يتورط فى مثل هذه المساحات، التى أنزلق إليها من اتخذ إلهه هواه.